إذا فسد نبع الكلام فسد ماء اللغة

«الثنائي» من مباني كلام العربية التي أشار إليها أصحاب كتاب العين. كما ترجم صاحب تهذيب اللغة، وغيره، لعشرات اللفظات الثنائية التي يستخدمها العرب في كلام اليوم، مثل: «قم، حط، سل، جل، فل»، وغيرها العشرات. وعندما يقول أصحاب العين إن هذه اللفظة أو تلك «ثنائية» فإنهم يعنون بذلك أنها مؤلّفة من حرفين. وينطبق هذا الفهم العددي لحروف الكلام على باقي أصحاب “العين” مسؤولون عن فرض أبنية لغوية لا وجود لها في العربية الصحيحة«الثنائي» من مباني كلام العربية التي أشار إليها أصحاب كتاب العين. كما ترجم صاحب تهذيب اللغة، وغيره، لعشرات اللفظات الثنائية التي يستخدمها العرب في كلام اليوم، مثل: «قم، حط، سل، جل، فل»، وغيرها العشرات. وعندما يقول أصحاب العين إن هذه اللفظة أو تلك «ثنائية» فإنهم يعنون بذلك أنها مؤلّفة من حرفين. وينطبق هذا الفهم العددي لحروف الكلام على باقي المباني، إذ قالوا: «كلام العرب مبني على أربعة أصناف: على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي؛ فالثنائي على حرفين نحو: قد، لم، هل، لو، بل، ونحوه من الأدوات والزجر».*


أما المباني الباقية التي ساقها أصحاب العين في الصفحة نفسها فهي:

2. الثلاثي من الأفعال والأسماء نحو: ضرب، خرج، دخل، عمر، جمل وشجر، وهو مبني على ثلاثة أحرف،
3. الرباعي نحو: دحرج، هملج، قرطس، عبقر، عقرب وجندب، وشبهه،
4. الخماسي نحو: اقشعر وسفرجل وقبعثر، وشبهه.

وعندما يحاول الباحث تحليل الكلام وفق مباني أصحاب العين، وغيرهم، سيكتشف بعد تمعّن أن الاختلاف بين مباني العين والمباني اللغوية الحقيقية شامل، فما كل الثنائيات صنف واحد، ولا كل الثلاثيات صنف واحد، ولا الرباعي رباعي لأنه مؤلف من نواتين أو مقطعين أحاديين، ولا الخماسي خماسي لأنه ليس في الكلام رباعي صحيح فكيف يكون خماسي في الكلام؟.
ومن الواضح أن مباني العين، بل المباني في القواميس كافة، هي المباني الظاهرة لعين الناظر لا المباني الكامنة في الكلام. ولا تكشف المباني الكامنة نفسها إلا بتجريد اللفظ الكبير ودراسة معاني أقدمه لتزمين مبانيه اللغوية تمهيداً لتصنيفه في موقعه الزماني الصحيح.والزمان الصحيح في الكلام ليس زمان أصحاب العين، وليس زمان ظهور الاسلام، وليس زمان الجاهلية، وليس زمان الآشوريين والمصريين القدماء، بل الزمان الذي سبقهم جميعاً. لهذا، من الطبيعي أن يتألّف الكلام من طبقات يرتفع بعضها فوق بعض، وأعمق هذه الطبقات كلام أهل الزمان الأول. أما طريق البحث قبل الكلام المُعبّر الأول فيبدو أنه طريق مسدود لأن الكلام الأحادي الحرف محدود بالطبيعة، ولا تنطبق على اللغة الأحادية الحرف أبسط تعاريف اللغات، أي القدرة على ابتكار جمل بلا نهاية.وعصر أصحاب العين، وغيرهم، ليس آخر عصور الكلام، فهو واحد من عصور كثيرة سبقتهم، وواحد من عصور لحقت بعصرهم. ولكل عصر خصائصه الاجتماعية والفكرية والبيئية وغيرها، وتختلف هذه الخصائص باختلاف العصور، ومنها الخصائص الكلامية. وإذا نظر اللغوي كلام بحثه، نظر كلام عصره وكلام مؤلفي مراجعه في عصور أسبق. لكن لو سأل نفسه: لماذا في الكلام لفظات من حرفين ولفظات من ثلاثة حروف ولفظات مضاعفة أو متوالفة؟، فربما استنتج أن بعض الكلام أقدم من بعض، وأن المبنى هذا غير المبنى ذاك، ولا يُعقل أن يكون الكلام كله والمباني كلها ابتُكرت في يوم واحد، أو في عصر واحد. ولو ابتُكرت كلها دفعة واحدة لما نطق بعض الناس الكلام باختلاف عن نطق الآخرين، ولما كان في الكلام صنف وصفه البعض بالفصحى وصنف وصفه البعض بالفصيح وصنف ثالث هو المحكيّات التي يبدو من إيقاعها الثنائي أن جزءاً من كتلتها كان كلام العصور التي سبقت التاريخ.ولاحظ بعض الباحثين أن أصحاب العين عرضوا مباني الكلام الذي اشتغلوا عليه كما عرفوه، فأجابوا عن أسئلة وتركوا أخرى. وإذا افترض الباحث أن الثلاثي أصل الكلام فربما افترض أيضاً أن الثنائي «مشتق» من الثلاثي بإسقاط أحد حروفه لسبب ما. ويتناقض مثل هذا التصوّر مع مبدأ تدرّج المعارف وتراكمها، أي أنّ من يقترح أن الثلاثي سبق الثنائي ربما اقترح أيضاً أن الناس عرفوا الرقم «عشرة» قبل الرقم «خمسة»، أو أن أصل الثنائي قط هو الثلاثي «قطع» وأصل سم «سمع» وأصل قع «وقع»، وهكذا.وقال أصحاب العين إن «الثنائي على حرفين». وهذا يقين عين الانسان فهو مؤلّف، بالفعل، من حرفين لكنّه ليس يقين العلم لأن دراسة اللفظات الثنائية تكشف وجود اختلافات أساسية بين الثنائية والأخرى استوجب عرضها بصورة مناسبة لأهمية ذلك في معرفة المباني اللغوية للكلام كله، كما استوجب تعريف كل صنف منها. و«النواة» مؤلّفة هي الأخرى من حرفين صحيحين، فمن وصَفها بأنها «ثنائي» لم يخطىء، إلا أن النوى أصول الكلام، فهي كالبذرة التي تنبثق منها أغصان الكلام. والنوى صنف من اللفظات الثنائية، صنفها الثاني «المقطع الأحادي» المؤلّف أيضاً من حرفين. والفرق بين الصنفين هو أن الأول يتألف من حرفين يبدو أن ابتكار أحدهما سبق الآخر، مثل «حأ، أل، أف»، فيما ابتكر الناس المقاطع الأحادية من حرفين متلازمين، مثل «چر، پت وخت».وستُقترح في فصول أخرى الأسباب المحتملة للتباين الكبير بين مباني الكلام التي حدّدها أهل اللغة والمعاجم في القرون الهجرية الأولى، والمباني الحقيقية. وربما أمكن هنا القول إن اللغويين اللامعين اللاحقين لم يتمكّنوا من تجاوز الحدود التي فرضها مؤسسو معارف اللغة في بداية عهدها، فتقارب دور بعض المؤسسين مع الدور الذي أدّاه المؤرخ اليعقوبي الذي كان من روّاد التأريخ بالعربية. وفي الوقت نفسه غاب عن انتباه الكثيرين وجود كتلة ضخمة من كلام اليمن في الطبقات الصلدة من نسيج اللغة. وأجاب اكتشاف هذه الكتلة اللغوية اليمنية عن أسئلة، لكنّه طرح أسئلة أخرى تطلبت الاجابة عن بعضها إعادة النظر في مصادر «كلام الشمال» ومحاولة تحديد أصوله الحقيقية.والمعروف في تاريخ معارف الكلام أن بعض أهل اللغة اشتغل بالكلام معظم سنوات عمره، ومنهم من تغرّب في البوادي لجمع الكلم من الأعراب وغيرهم، وكثيرون أحبوا العربية، ورضوا بالقليل لكي يعطوا اللغة كل ما عندهم من علم ووقت. ويعترف باحثون أن بعض أهل اللغة والمعاجم، ومنهم الأزهري وابن سيده، من ألمع عقول أهل المعارف. ويتطلب الربط بين الكلام والمعاني في عقل صاحبه ملكة لا يتحقق الربط الشاسع إلا بها، هي العبقرية، فهذا أحد تعاريف العبقرية وهو ربط صورة محسوسة بصورة غير محسوسة وجمع الصورتين في صورة جديدة لها مواصفات الابداع والريادة والصدقيّة.
ومن الباحثين من اقترح أن اللغويين العارفين بكلام العاربة، ومنهم الأزهري، ربما تمكّنوا من إعادة النظر في بناء العربية وتأصيلها التأصيل الصحيح لو توافر لهم ما يتوافر لباحث العصر من أدوات المساعدة، وأهمها الكومبيوترات القادرة على تحليل الكلام وتفكيكه وإعادة بنائه على مبانيه الصحيحة، والمراجع المتخصصة بالمخلد من كلام العاربة في العراق ومصر والشام وشمال افريقيا، وغيرها مما يمكّن الباحث من المقارنة، وتحديد أوجه الاختلاف في مباني الكلام ومعانيه.وستُعرض في هذا المجلد أمثلة على كل ما تقدم، لكن ليُعرض من الآن أن أهم الأدوات التي كشفت وجود اختلاف بين مباني الكلام والمباني التي اقترحها بعض أهل اللغة معجم تهذيب اللغة للأزهري، والمحكم لابن سيده الأندلسي، والكثير من مادة هذين المعجمين المتميزين في لسان العرب لابن منظور الذي أخذ عن شيوخ الكلام، مثلما أخذ عنهم الأزهري وابن سيده.وربما أمكن القول إن وعي بعض اللغويين «شتت» مباني الكلام الذي اشتغلوا عليه كان أحد أسباب تعدّد طرق تصنيف الكلام في المعاجم. لكن يجب أن يُقال إن تعدّد هذه الطرق زاد تشتت الكلام. وفي النهاية، يبدو أن بعض اللغويين العجم تعامل مع العربية كما تعامل مع لغته الأم، وفات بعضهم أن العربية ليست لغة مفردات مستقلة يرتّبها هذا المعجّم أبجدياً والآخر ألفبائياً والثالث حسب أواخر الكلم والرابع حسب نطق الحروف، وإنما كلام مؤلف من وحدات وفصائل لغوية متجانسة فك المعجّمون تماسكها عندما فصلوا مكوّناتها ووزّعوها على صفحات المعاجم. وكلما استنبط مُعجّم طريقة جديدة للتصنيف أبعد تجانس الكلام، وأضاف إلى لفظات المباني مساحة فارقة أخرى ساهمت هي الأخرى في ابتعاد اللفظ واضطراب مبانيه.وانسحب هذا الاضطراب على ترجمة المطالب فتداخلت في عدد ملفت منها معاني أكثر من أصل، أو اجتمعت فيها معاني ألفاظ اليمن ومعاني ألفاظ الكلام اليمني المُرحّل إلى كلام الشمال. وهذا أحد أسباب خلط معاني «العذاب والعذوبة» في مطلب عذب، وخلط معاني «البطلان والبطولة» في مطلب بطل، وخلط معاني «الغرام والغرامة» في مطلب غرم، وخلط معاني «النعش والانتعاش» في مطلب نعش، وخلط معاني «العَظَمة والعِظام» في مطلب عظم، واحتواء ترجمة مطلب مثل ذكر على معاني «الذِكرى والذِكْر والذَكر والمذكّر».

* الفراهيدي، الخليل بن أحمد (ت. 170)، كتاب العين، ترتيب وتحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي (4 أجزاء)، دار الكتب العلمية، (بيروت 2003)، ج1، ص 35.من مجلد الأسس الطبيعية لحضارة العرب (المجلد الأول من كتاب الأصول)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، 2009 تأليف عادل سعيد بشتاوي.

(Visited 4 times, 1 visits today)

Last modified: 4 يناير، 2023

اشترك للحصول على نصائحنا الأسبوعية ، ومهاراتنا ، ومعداتنا ، ونشراتنا الإخبارية الشيقة.
Close