في أچـو بقلم

نوح والطوفان

(1)

شبهات تثار حول الطوفان الذي كان في زمن نوح عليه السلام

سأل سأئل ورد استفساره في موقع الاسلام: سؤال وجواب*
لطالما أرَّقني هذا السؤال، بل وأرَّق على الأرجح معظم الشباب، ولم نجد إلى الآن من يُجيب عنه إجابة مقبولة على المستوى الفكري، ولم نستطع فهمه ولا استيعابه، وأصبح البعض ينظر إلى الدين على أنه مجموعة قصص خيالية لا حقائق . السؤال ببساطة هو: هل كان فيضان نبي الله نوح عليه السلام عالمياً شاملاً، هلك فيه جميع من في الأرض، أم محليا؟ فإن كان عالمياً فكيف استطاعت كل الحيوانات التكدس في سفينة واحدة؟ معنى ذلك أن السفينة كان لا بد أن يكون حجمها على الأقل مئات الكيلو مترات المربعة، وهذا بالطبع مستحيل لأنه لا يمكن بناء سفينة خشبية، أو غير خشبية، بهذه الصورة، ولكن دعونا نفترض أنها كانت ممكنة الحدوث فكيف إذا استطاعت الحيوانات أن تختار وجهتها فهذه إلى استراليا وهذه إلى أمريكا، وبالخصوص تلك الحيوانات النادرة التي لا توجد إلا في مكان واحد، كالكنغر مثلاً في استراليا؟ لا يبدوا الأمر منطقياً على الإطلاق ! أمّا إن قيل إن الحيوانات كلها بدأت من نقطة واحدة فكيف نفسر عندئذ هذا التنوع العجيب في مملكة الحيوان، واختصاص كل قارة بحيوانات لا توجد في غيرها من القارات . والأهم من هذا كله: هل كان هناك على الأرض ماء كاف لتغطية الأرض كلها وإحداث هذا الفيضان العظيم؟! وان قيل إنه كان فيضاناً محلياً، فسنقول إن هذا يعارض ظاهر القرآن، لأن السياق القرآني يوحي بأنه كان فيضاناً كونياً والدليل على ذلك أن كل الجبال بما في ذلك الجبال الشاهقة كانت تحت الماء (بالإشارة إلى قصة بن نوح)، وقد مات كل كافر على الأرض آنذاك..الخ . فأرجو منكم التوضيح، وأسأل الله أن يعفو عني لجهلي وزللي وأن يهديني إلى الحق .

الجواب:

من الإنصاف للحقيقة أن يعلم الناظر والباحث أن العالم إذا ألف كتابا واحتوى علما كثيرا ثم بعد ذلك اطلعوا على مكان واحد من كتابه يصعب على الفهم، فالمتعارف عليه عند جميع العقلاء، والذي تقتضيه الموضوعية العلمية أنّ هذا الكتاب لا يُطعن فيه، ولا يُطرح جميع ما فيه من علم، بمجرد وجود هذه الصعوبة، بل عليه أن يستعمل الأدوات المناسبة لفهم ما يشكل عليه، وحل معضلات الكلام .
وهذا في كلام البشر؛ فكيف بكتاب مثل ” كتاب الله ” جل جلاله، وقد مر عليه من القرون ما مر، وآمن به من العقلاء من آمن، وعاداه من البشر من عاداه، وسعوا إلى الطعن فيه بكل سبيل؛ فلم يستطيعوا أن يأتوا فيه بطائل؛ بل يضطر المنصفون منهم إلى الإقرار بفضل هذا الكتاب، وعظيم شأنه، ومنهم من شرح الله صدره للإيمان به، بعدما جهد طويلا ليطعن فيه !!

ثانياً:
القصص في القرآن: جاءت لمقاصد إيمانية ودعوية أشار القرآن إليها بوضوح منها:
1- تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وقلوب المؤمنين عند الشدائد:
قال الله تعالى: ( وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) هود/ 120.
2- للتدليل على أن هذا القرآن من الله تعالى المحيط بكل شيء علما، والعالم بما كان وبما سيكون، كما قال الله تعالى بعد ذكره لقصة نوح عليه السلام:
( تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) هود / 49.
فالقرآن يذكر من الحادثة ما يحقق المقصود الدعوي والإيماني منها، كما نرى في قصة نوح عليه السلام مع قومه، فقد كان التركيز على جهد نوح في دعوته، وبيان مدى إعراض قومه عن الحق، ثم بيّن الله العقاب الذي لحق هؤلاء القوم المعرضين عن الحق، وذكر لنا من صفات هذا العقاب ما نستطيع أن نأخذ منه صورة عامة لهوله، أما باقي تفصيلاته التي لا تفيدنا فلم يتعرض لها القرآن .

قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:
” ففي القرآن الكريم أشياء كثيرة لم يبيِّنها الله لنا ولا رسوله، ولم يثبت في بيانها شيء، والبحث عنها لا طائل تحته ولا فائدة فيه .
وكثيرٌ من المفسرين يطنبون في ذكر الأقوال فيها بدون علم ولا جدوى، ونحن نُعرض عن مثل ذلك دائماً، كلون كلب أصحاب الكهف، واسمه، وكالبعض الذي ضرب به القتيل من بقرة بني إسرائيل، وكاسم الغلام الذي قتله الخضر، وأنكر عليه موسى قتله، وكخشب سفينة نوح من أي شجر هو، وكم طول السفينة وعرضها، وكم فيها من الطبقات، إلى غير ذلك مما لا فائدة في البحث عنه، ولا دليل على التحقيق فيه “انتهى من” أضواء البيان ” (4/58) .

فالأولى أن نترك التدقيق في المعلومات التي لم يذكرها القرآن ولا السنة عن هذا الطوفان وذلك لسببين:
1- عدم وجود الفائدة من ذلك التدقيق، فلو كان فيه فائدة لأخبرنا به القرآن أو السنة .
2- أن الأسانيد العلمية، والأدلة التاريخية: لن توصلنا إلى نتيجة قطعية في مثل ذلك؛ لأن واقع الحياة وتفاصيلها في ذلك الزمن البعيد جدا: مجهولة للإنسان، وما يذكره العلم الحديث عن تلك الأزمان البعيدة في القدم: ليس كله من الحقائق العلمية المطلقة، بل كثير منه هو نظريات وتفسيرات علمية، قابلة للتغير والتخطئة والإبطال .

ثالثاً:
ظاهر النصوص القرآنية والذي عليه المفسرون أنه عمّ الأرض، وصرح القرآن أيضا أنّ قوم نوح قد عمّهم الطوفان بماء هائل، ولم ينج منهم إلا من ركب مع نوح في السفينة، والبشرية اليوم هي من نسل نوح عليه السلام، فهذا الذي يشير إليه القرآن، أما كيف تمّ جمع هذه الحيوانات، وكم طول السفينة، وكم كانت كمية الماء وإلى أي مدى بالضبط وصل؛ فلا يوجد نص قاطع من قرآن أو سنة على ذلك، فلا نشغل بها أنفسنا .

قال الطاهر ابن عاشور رحمه الله:
” وعموم الطوفان هو مقتضى ظواهر الكتاب والسنة ” انتهى من ” التحرير والتنوير ” (23/131) .

ولمزيد الفائدة طالع الفتوى رقم: (130293 ).**

والقرآن الكريم لم يخبر أن جميع الحيوانات التي كانت على ظهر الأرض يومئذ، كانت معه في السفينة، وإنما كان معه من كل صنف منها زوجان اثنان .
قال الله تعالى: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) هود/40 .

قال الشوكاني رحمه الله – في تفسير هذه الآية -: ” أي: قلنا يا نوح، احمل في السفينة من كلّ زوجين، مما في الأرض من الحيوانات: اثنين؛ ذكرا، وأنثى ” انتهى من ” فتح القدير ” (2/ 565). فنوح عليه السلام لم يحمل جميع الحيوانات، وإنما حمل من كل نوع منها اثنين، ذكرا وأنثى؛ ليحصل التوالد والنسل منهما بعد ذلك .
والحيوانات الكبيرة الحجم ليست بالكثيرة جدا في عالم الحيوان، وعدد مثل هذا لا يحتاج إلى سفينة تصل إلى مئات الكيلومترات كما ذكر في السؤال .

ثم من قال، وبأي دليل يقول: إن جميع الحيوانات التي يعرفها الناس اليوم، الكبير منها والصغير، كانت موجودة على ظهر الأرض في زمن الطوفان، ليركب من كل من صنف منها: زوجان في تلك السفينة، التي يفترض أنها لن تسع ذلك كله؟!
وبأي دليل يمنع المانع من أن يكون الله تعالى قد خلق من الكائنات الحية، ما خلق، وأوجدها على ظهر الأرض، بعد زمن الطوفان، لا قبله؟!
إن من يستشكل ذلك: يجب أولا أن يكون عنده تصور عن طبيعة الحياة في ذلك العصر، ومدى التنوع الحيواني وأماكن انتشار الحيوانات …الخ، وهذا كله لا نملك عنه معلومات قاطعة وهي واقعة خارج التاريخ المعلوم للإنسان، فالله وحده أعلم به .

رابعاً:
أما كيف كان في بلاد كذا من الحيوان ما لا يوجد في غيره؟ وكيف توجه حيوان كذا إلى بلد، دون غيره …؟
فجوابه سهل ميسور؛ ألم تعلم أن الله تعالى خلق كل كائن حي، وهداه إلى منافعه وما يصلح شأنه؟!
فاستمع ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الحوار الذي دار بين نبي الله موسى، وعدو الله الجاحد: فرعون: ( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى * كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى * وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ) طه/49-56 .

فتأمل كيف دله موسى عليه السلام إلى أن الله جمع بين خلق الخلق، وبين هدايته لما ينفعه ويصلح له شأنه .
وتأمل، كيف دله ونبهه على آيات الخلق والإعادة بما حوله من أمر الكون، والخلق، والحياة والموت، وتمهيد الأرض، وإحيائها بالمطر، ونبات الزرع منها !!

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
” أي: ربنا الذي خلق جميع المخلوقات، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، الدال على حسن صنعه من خلقه، من كبر الجسم وصغره وتوسطه، وجميع صفاته، ( ثُمَّ هَدَى ) كل مخلوق إلى ما خلقه له، وهذه الهداية العامة المشاهدة في جميع المخلوقات، فكل مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع، وفي دفع المضار عنه، حتى إن الله تعالى أعطى الحيوان البهيم من العقل، ما يتمكن به من ذلك ” انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ” (ص/590) .

ثم إن في عالمنا المشاهد اليوم بعض الحيوانات تهاجر المسافات الطويلة وتعود إلى أماكنها ولا تخطئها، وبدراسة قريبة الغور لعالم الأسماك، وعالم الطيور، وعالم الحيوان كله: تقف من ذلك على ما يذهل العقل، ويحير اللبيب، ويدل الفطن على قدرة اللطيف الخبير !!
كيف تتعرف هذه الحيوانات على الطريق الصحيح لرحلاتها، وكيف تنتبه للتوقيت المناسب للرحلة؛ وكيف، وكيف؟!
الباحثون حاولوا الإجابة على هذه الأسئلة؟
لكنّ الله أعطانا الجواب من قبل فقال تعالى: ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) طه/50 .

ونعود ونذكر بما قلناه سابقا:
من أدرانا أن الله لم يخلق ما شاء من خلقه، في زمان معين، ومكان معين: ابتداء؟!
ومن أين لنا العلم أن الله تعالى كان قد خلق جميع الكائنات الحية، قبل طوفان نوح عليه السلام؟!

ثمّ هذه القصة التي أشكلت عليك، هي نفسها من الأدلة الواضحة على عظمة القرآن وأنه منزّل من الله تعالى، وليس من قول البشر، راجع مثلا كتاب موريس بوكاي ” القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ” وكلامه عن موضوع الطوفان في القرآن الكريم .

والله أعلم .

* https://islamqa.info/ar/213057

** الفتوى 130293: 1- السؤال: هل غرق جميع من على الأرض بعد الطوفان العظيم زمن نوح عليه السلام؟

2- الجواب: يدل صريح القرآن الكريم على أن جميع من على الأرض أغرقوا بالطوفان، ولم ينج من البشر ولا من الحيوان إلا مَن حمله نوح عليه السلام معه في السفينة.

قال الله تعالى: (فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ) الشعراء/119-120 .

وقال عز وجل: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) هود/40 .

وقال تعالى: (فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) يونس/73 .

كما جاء النص في القرآن الكريم على أن الأرض إنما عمرت بعد ذلك من نسل ذرية نوح عليه السلام فقط، وأما المؤمنون الذين نجوا معه في السفينة فلم تبق لهم ذرية، فجميع أهل الأرض الآن من ذرية نوح عليه السلام .

قال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ . وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ . وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ . وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ . سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ . إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) الصافات/77-81 .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام .

وقال قتادة في قوله: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) قال: الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام .

“تفسير القرآن العظيم” لابن كثير (7/22) .

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله:

“وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة:

فعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا ثمانين نفسا معهم نساؤهم . وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفسا، وقيل: كانوا عشرة .

قال جماعة من المفسرين: ارتفع الماء على أعلى جبل بالأرض خمسة عشر ذراعا، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل: ثمانين ذراعا، وعَمَّ جميع الأرض طولها والعرض، سهلها وحزنها وجبالها وقفارها ورمالها ولم يبق على وجه الأرض ممن كان بها من الأحياء عين تطرف، ولا صغير ولا كبير .

قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملؤوا السهل والجبل .

فإن الله لم يجعل لأحد ممن كان معه من المؤمنين نسلا ولا عقبا سوى نوح عليه السلام . قال تعالى: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ) فكل من على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى أولاد نوح الثلاثة، وهم: سام وحام ويافث” انتهى باختصار .

“البداية والنهاية” (1/111-114) .

وقال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله:

” ضمير الفصل في قوله: ( هُمُ الْبَاقِينَ ) للحصر، أي: لم يبق أحد من الناس إلا من نجاه الله مع نوح في السفينة من ذريته، ثم من تناسل منهم، فلم يبق من أبناء آدم غير ذرية نوح، فجميع الأمم من ذرية أولاد نوح الثلاثة، وظاهر هذا أن من آمن مع نوح غير أبنائه لم يكن لهم نسل . قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه . وبذلك يندفع التعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة هود: ( قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ) هود/40، وهذا جار على أن الطوفان قد عم الأرض كلها، واستأصل جميع البشر، إلا من حملهم نوح في السفينة” انتهى .

“التحرير والتنوير” (23/47) .

وأما قوله سبحانه وتعالى: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ) الإسراء/3 . وقوله عز وجل: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) مريم/58.

فلا يدل على استمرار نسل المؤمنين الذين حملهم نوح عليه السلام معه، بل المقصود أبناء نوح عليه السلام الذين استمر نسلهم دون باقي المؤمنين .

قال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: “قوله تعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)، بين أن ذرية من حمل من نوح لم يبق منها إلا ذرية نوح في قوله: (وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)” انتهى .

“أضواء البيان” (3/13) .

والله أعلم .

Paintings of Noah and the Ark, 1840 The Deluge Francis Danby 1793-1861

(2)

ما تقدم أعلاه محاولات لاثبات الكلام بكلام آخر فهو عود على بدء ودائرة كلامية مفتوحة يتصل آخرها بأولها. وربما قيل إنه ليس للبشر الاشتغال بنصوص يتفق الملايين بالفعل الايماني الخالص أنها ليست من ابتكار البشر. وفي القرآن مخرج واضح لمن يستعصي عليه فهم أي أي قصة أو جملة أو كلمة فيه معروض بوضوح في الآية 26 من سورة الملك: “قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ” تسري على الساعة مثلما تسري على الطوفان وغيره.

والحديث هنا على الطوفان فإن لم يكن ما حدث طوفاناً فللحديث فيه شأن يختلف عما ورد في القرآن أو غيره من الكتب الدينية لأن الطوفان حالة طبيعية نعرفها في زماننا مثلما عرفها السابقون في أزمنتهم. وليس في الكتب المتاحة تحديد واضح يزمّن هذا الطوفان لكن من الممكن اقتراح زمن تقريبي له بنظر تركيب أسماء اتصلت بالطوفان المُساق في الكتب.

أول الأسماء نوح وهي مركب ثلاثي أصله الثنائي *نأ لحق به الحرف “ح”، أي: نأ+حح = ناح، نوح، ناحية، منحى، نواح، الخ. وكان ابن الأعرابي يقول: لا يكون نوءٌ حتى يكون معه مطر وإلا فلا نوء» (ل.ع (لسان العرب)، نوأ). لذا ملفت في اسم “نوح” أنه مُركب لمناسبة حدث الطوفان لأن للأصل الثنائي *نأ عدد من المعاني من أبرزها النوء، أي المطرز كما أن حالة النأي المكاني في الأصل الثنائي تتصل بالمطر لأن الغيوم تأتي عادة من أمكنة أبعد بكثير من المكان الذي يسقط فيه. ويمكن للإيمانيين القول إن قدرَ نوح أن يتصل اسمه بالطوفان، وربما عُرف باسم آخر قبل أن يتصل بالطوفان فحُمّل اسمه، لذا فإن لفظتي “طوفان” و”نوح” متصلتان في أصل لغوي واحد لكن من نوع “اسم على مسمى”، وهذا ليس من الأمور التي تدعو إلى الدهشة عند الإيمانيين.

ويمكن القول إن الأسماء الثلاثية لحقت ببدء العصر الزراعي قبل 10-11 ألف سنة خلت، لكن لا توجد طريقة يُوثق بها لتحديد زمن أقرب لأن مبنى الثلاثي آخر المباني اللغوية في العربية القديمة ولم يجد الناطقون باللغة حاجة لابتكار بناء لغوي من ألوف السنين.

نوح، نوء (مطر)

وليُقل في سبيل التفصيل إن انطباق اسم نوح على حالة المطر، الذي قيل إنه كان السبب الأهم في إحداث الطوفان، من جملة حالات ليست من اختصاص علم حرج مثل تأصيل الكلام التطبيقي، وتفسيره الأنسب في الإيمانيات. إلا أن اسم نوح موجود في الكلام والكلام اختصاص تأصيل الكلام التطبيقي فيبين لنا أن اسم نوح الثلاثي حديث نسبياً في اعتبار عمر الكلام، وهو مثل زيد وعمر وحمد، لذا لا ينتمي أهل هذا العصر إلى أهل العصر الأول مثل *أد و*چد وعد و*هد، وغيرهم، وهذا يمكن أن يعني أن الطوفان لم يحدث في أزمان آدم وعد وهد (هود)، وغيرهم وإلا لكان اسم نوح من بناء الأصول الثنائية التي لها زمنها مثلما للثلاثي زمنه.

وأصل نوأ *نأ/*نو، ومن معانيها الابتعاد (نأى ينأى) لاتصال الأنواء بمواضع النجوم، واتصال مواضع النجوم بمواقيت تقريبية لهطول المطر. واسم نوح من هذا الأصل الثنائي فالواو مقلوبة من الهمزة والحاء حرف تخصيص الثلاثية للدلالة على اسم العلم. بما أن الطوفان حدث أيام نوح فربما كان مُستبعداً أن يُعرف يوم ولادته بحالة (طوفان) لم تكن حدثت بعد. إذا كان نوح من أهل أول الزمان فربما كان له اسم ثنائي، وربما أكسبه الناس اسمه الدلالي الحديث نسبياً (نوح) في العصر الذي لحق بالطوفان.

نوح وأولاده

وفي موقع مركز الفتوى سؤال: هل أري هو أحد أبناء النبي نوح عليه السلام؟

الإجابــة: لم نقف لنوح عليه الصلاة والسلام على ولد يسمى أرى فأولاد نوح الذين ذكر لهم عقب وذرية ثلاثة هم: سام وحام ويافث، ففي تفسير الإمام ابن كثيروفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك. انتهى (إضافة إلى ولده الكافر الذي غرق في الطوفان، وقد اختلف في اسمه فقيل كنعان وقيليام، كما في الفتوى رقم: 47237 والله أعلم). رابط السؤال والجواب هنــــــــــــا.

هنا أيضاً محاولة أخرى لاثبات كلام بكلام آخر نُقل عن هذا “الإمام” أو غيره وليس احد منهم معاصراً لنوح أو للطوفان، وليس لتأصيل الكلام التطبيقي شأن في أحاديث نُقلت عن النبي محمد سيد العرب وأمير جزيرتهم لكن يبدو لتأصل الكلام أن أصل هذه الرواية كتبة اليهود فاختلط “الحابل بالنابل”، كما يُقال. وسبب الاختلاط في اقتراح تأصيل الكلام التطبيقي أن رجلاً مثل نوح اسمه ثلاثي حديث نسبياً لا يمكن أن يكون اباً لآباء اسماؤهم ثنائية من عصر الحجر، أي “سم” و”حم”، أما “يافث” فتركيبة لأن حرف الثاء ليس من حروف العربية القديمة وليس له وجود في الآكادية، شقيقة العربية القديمة.

وعجيب أن يُقال إنه قيل أن كنعان ابن نوح. ولم يقل الكتبة اليهود إن نوح يهودي ولم يُقل إنه عربي لكن اسم “كنعان” واضح لتأصيل الكلام فهو مد تفخيم بزيادة النون لفعل هو “كنع” صار اسم علم، ومتابعته في أصل السم ومنهم السومريون والكنعانيون، على هذا الرابـــــــــط.

Nicolas Poussin (1594–1665), Winter (Flood) (c 1660-1664), oil on canvas, 118 x 160 cm, Musée du Louvre, Paris. WikiArt.

(Visited 3 times, 1 visits today)

Last modified: 4 يناير، 2023

اشترك للحصول على نصائحنا الأسبوعية ، ومهاراتنا ، ومعداتنا ، ونشراتنا الإخبارية الشيقة.
Close