لا يوجد مقياس نظري يُمكن اعتماده لتقدير تأثير نظريات أصل الأديان والاكتشافات الأثرية في القناعات الدينية السائرة وإنما يمكن القول إن بعض المؤمنين كانوا أكثر تأثّراً من غيرهم، فيما تمكّنت الكنيسة، في العموم، من تجاوز المضاعفات الأخطر للنظريات والاكتشافات الأثريّة. ولا يمكن القول إن أياً من النظريات والاكتشافات الأثرية كان بمثابة «زلزال» هدم أعمدة الأديان، إلا أنه من الممكن الزعم أنها كانت أقرب إلى عامل الحت الطبيعي الذي حرم الكنيسة من القدرة الأسبق على المبادرة، فتحيّنت فرصة استردادها. وربما تحقق شيء من هذا الهدف خلال مرحلة صعبة عصفت بأوروبا، وبعض مناطق العالم الأخرى، اعتباراً من نشوب الحرب الفرنسية البروسية (1870-1871) التي استولدت الامبراطورية الألمانيّة على ما بقي من حطام الامبراطورية الفرنسيّة. إلا أن وجود العملاق الألماني الجديد في الساحة الأوروبية أخلّ بالتوازنات التاريخية، وربما قيل إن المنافسة الألمانية لعبت دوراً مهماً في نشوب الحرب العالمية الأولى، فيما نمت في الأرض الخراب للحرب الأولى بذور الحرب العالمية الثانية.
وبحلول السلام بعد الحرب بدأت أهميّة الكنيسة في الانحسار، وعاد الباحثون إلى دراساتهم التي انضجت الاعتقاد أن الأعمدة التي أقام عليها الكهنة اليهود تاريخ إسرائيل أعمدة «روائية» رخوة ليس لها في أرض الواقع الأساسات الطبيعية التي تزعم نصوص الكتب اليهودية وجودها. وفي نهاية التسعينات من القرن العشرين خَلُص عدد من الباحثين الأوروبيين إلى أن رواية الخروج التوراتية من مصر ليس لها ما يؤكّدها على أرض مصر وسيناء، وأن رواية السبي البابلي جزء من المرحلة الاسرائيلية-الفارسية.
وقيل إن لبعض الروايات التوراتية أصول في التراث القَبَلي المحفوظ قبل تأليف التوراة، فما هي طبيعة هذه الأصول؟ من هم أصحابها، وما هو زمانها المُحتمل، وكيف اتيحت للكهنة اليهود المادة التي استُخدمت لبناء اليهودية، وهل في المراجع المُتاحة أصول الروايات اليهودية التي يمكن استخدامها للمقارنة؟
إنَّ الاجابة عن أسئلة كهذه، وغيرها، أصل دراسة تأصيليّة لغوية بدأت قبل نحو عقدين تبيّن في مرحلة متقدمة من نضوجها أن للأديان أصول سبقت عصر ما اتفق بعض الباحثين على تسميته «الأديان السماوية» بألوف السنين، وأنّ المفاهيم الدينية البدائية تطوّرت في مواطن الانسان الحديث في افريقيا قبل بداية أعظم رحلة في تاريخ الانسان في عصر يُعتقد الآن أنه سبق العصر السائر بنحو 60-40 ألف سنة مقارنة بتقديرات أسبق زادت التقدير بنحو 20 ألف سنة.
هي مفاهيم أوليّة اتصل بعضها بمحاولة تحديد أصل خلق الانسان، فيما كان لبعض المفاهيم الدينية-الاجتماعية ارتباط بالمجاعات والأمراض، وباحتفال الأسر الأولى بولادة طفل جديد، أو اجتماع فتى وفتاة في عقد اجتماعي ملزم، أو بشكر طريدة على منح نفسها طعاماً للجائعين، أو الثناء على شاب تمكّن من إنقاذ أم وأولادها من سبع تسلل وراءها وهي تغسل أطفالها في عين الماء قبل لحظة الانقضاض. هذه حالات مُفترضة تُجمع إلى حالات مشابهة أخرى لا تختلف كثيراً عن حالات كثيرة يلجأ الانسان المعاصر فيها إلى الله أو إلى مشاعره الايمانية لاستمداد القوة التي تعينه على التعامل مع المصائب والأزمات التي تواكب معظم سنوات حياته، أو إلى التعبير عن الامتنان في الحالات الباقية الأقل عددا.
إذا كان عمر أقدم المفاهيم الطقوسية المؤكّدة بالتزمين الكربوني نحو 70 ألف سنة، فإنَّ زمان كتاب مثل التوراة في عمر إنساني من أربع وعشرين ساعة، هو الساعة الثالثة والعشرون. سبقت هذه المفاهيم بثلاثة أو أربعة آلاف سنة أديان جمعت بعض المفاهيم «السماوية» وبعض المفاهيم «الأرضية» في «مؤسسات» دينية سومرية طوّرت الكثير من المفاهيم التي انتقلت إلى «الأديان السماوية» كما هي في حالات، أو مُعدّلة في حالات، أو مزيدة في الحالات الباقية بمجموعة من الأحكام والوصايا يمكن تصنيفها إلى «متشابهات» و«مختلفات» و«مزيدات».
ويبدو، في حالات معيّنة، أنَّ «المزيدات» كانت لأهداف أهمها استيعاب المطالب والطموحات التي اعتبرها الكهنة أساسية في مرحلة مفصليّة، فمنحوها مكانة مهمة في الكتب التي أخرجوها في نهج معروف في الأديان «الناضجة» التي ظهرت في بلاد الرافدين منذ نحو سبعة آلاف سنة. ويبدو أن كهنة اليهودية كانوا في موقع تاريخي ومكاني فريد ساعدهم على صياغة نصوص معيّنة اعتماداً على بعض النصوص السومرية والآكادية المتُاحة في عاصمة الامبراطورية البابلية. إلا أنَّ هذه الدراسة ستزعم أن لبعض النصوص تلك أصول أقدم حتى من ملحمتي جلجامش و«أتراحسيس» في *وچ (الطائف) و*مچ (مكة) ومواطن *أد (أدم/آدم) في الجنوب الشرقي من جزيرة العرب.
Last modified: 4 يناير، 2023