في *أل, الكلام بقلم

الاجتهاد في التفسير

علم الأمة من علم علمائها وجهل الأمة من جهل علمائها

العاقلون يستشيرون مجلدات التفسير الانسيكلوبيدية في كلمة غُمضُ عليهم معناها من كل ثلاثمئة كلمة في المتوسط. إذا اكتشفوا أن ما غمُض عليهم غمض على جماعة التفسير، أحياناً في المطلق، كما في تفسير «أبابيل» و«سجيل»، وغيرهما، فما هي وظيفة المفسرين غير التفسير؟إذا قال مفسر مثل ابن عباس: «أَهلُ الكتاب لا يأْتون النِّساء إلا على حَرْفٍ» فهل استشار النساء قبل الخروج بهذا الرأي في شأنٍ غاية في الخصوصية؟ لعل بعضهن يرتحن إلى وضع الوقوف، مثلاً. إذا لم يأت بآية واضحة الكلام والمعاني تأمر الناس بإتيان نسائهن على حرف، فرأيُ ابن عباس رأي لا يُعتد به وتدخل في شأن لا حق له في التدخل فيه ولا تخويل.

لماذا عند مفسرين وجماعة الكلام هذا التسيب في الكلام والتنظير وإعلام الناس كيف يمارسون الجنس أو عرض خيارات الزوج في الزوجة إن جاءتها العادة الشهرية بما يشمل طعن سرتها بذكره، كما أوصى مجاهد؟ ألم ينبته أحدهم إلى أن مجلد تفسير القرآن ليس الروض العاطر في نزهة الخاطر ولا كتاب الايضاح في علم النكاح؟

قبل أن توهم جماعة التفسير الناس أن اشتغالها بتفسير القرآن يتيح لها بعض القدسية بالمكاننة كان عليها أن توهم نفسها بالتمتع بهذه السلطة فتولت الجماعة تخويل بعضها البعض لأن تخويل الواحد تخويل للجماعة. إذا لم يكن للضبط فالتفلت وجود. جماعة التفسير حاكمة بأمر نفسها، واضعة صلاحيات اشتغالها، راسمة حدود إخراجها كما شاءت، فهم كالزيت يصلح لحالات القلي كلها: السمك ثم البطاطا ثم البيض وهكذا. بعضهم مفسر في مكان، ومؤّول في مكان، وراوية في مكان، ومُشرّع في مكان، وفقيه في مكان، ولغوي عرّاب في مكان، ولغوي نحوي في مكان، وربما حشر بعضهم نفسه في سائر مثل هذه الحالات والاختصاصات.

هل في القرآن الكريم آية لم يستطيع غير المفسرين اكتشاف وجودها تعطيهم صلاحيات التدخل في خصوصيات الزوج والزوجة والتقرير متى تصبح الفتاة قابلة للنكاح بغض النظر عن عمرها؟ بعضهم قال للناس بنت في الثامنة ربما كانت أكبر حجماً من بنت في العشرين. لعله يقصد أن فرجها صار قابلاً لاستقبال ذكر الرجل. بعض البنات في الخامسة أكبر حجماً من بنات في العاشرة فهل ينطبق عليهم المقياس نفسه؟

الأمر متروك لولي الأمر، يقولون. لكن هل النضج الجسدي يواكب نضج الوعي؟ معظمهم ينظر إلى المرأة صاحبة فرج لا صاحبة عقل لأنها أصلاً مخلوقة من ضلع أعوج. حتى لو كان فيها عقل فهو أعوج مثل الضلع الذي أخرجها. مثل هؤلاء الدعاة دعاة اغتصاب وعنف. إذا سئل مد أصابعه في وجه الناس وعدّ: البخاري قال كذا، مسلم قال كذا، أبو هريرة قال كذا، إذاً ههنا إجماع الأمة على أن العقد يحل على بنت لم تأتها العادة الشهرية بعد.

لكن من هو البخاري، ومن هو مسلم ومن هو أبو هريرة؟ الله في السماء ورسوله محمد بن عبد الله سيد العرب والبشر من حضر منهم ومن غرب في الأرض والقرآن هو الكتاب المقدس الوحيد. ليس من بين الكتب الباقية كتاب منزل. الكتب كلها اشتغال المفسرين وغيرهم. إذا نزل الحاكم إلى السوق يجب أن تسري عليه شروط السوق لأنه صار تاجراً مثل باقي التجار. إذا نزل المفسر والمؤرخ واللغوي سوق التأليف يجب أن تسري عليه شروط الكتابة لأنه صار كاتباً مثل باقي الكتاب.

إذا شاء الناس احترام كاتب دون الآخر فهذا حقهم. إذا اقتنعوا باشتغاله فلهم إلباسه أي صفة يرون أنه يستحقها. جماعة التفسير والكلام جماعة صغيرة من الناس. لا يكفي أن يصف المفسر زميله المفسر بالعلامة والحبر والامام، وما إلى ذلك من كلام ويفرض وصفه على الناس، بل أن يزعم أن رأي المفسر بزميله المفسر رأي الأمة جميعاً.

فمن هو البخاري، ومن هو مسلم ومن هو أبو هريرة ومن هو مجاهد سوى واحد من الناس له رأي يسمع لكن السماع لا يعني الأخذ بالكلام المسموع. يجب أن يكون للكلام منطق وأن يستند إلى معرفة حقيقية لا إلى أقوال نسبها بعض الجماعة إلى غيرهم من الجماعة.

بعض المحدثين يخرج إلى الناس على شاشات ثم يستغرب كيف تجرأ سائل على التشكيك برأيه. رده: “أعدد على أصابعك: (1) البخاري قال كذا، (2) مسلم قال كذا، (3) مجاهد قال كذا… بعضهم يريد التنكيل بالسائل، وبعضهم يتمنى عودة زمان سلخ الجلد والتربيع.

ما كل الناس مثل بعضهم ولا كل الدعاة. بعضهم أصحاب علم وأخلاق وفائدة للناس. بعضهم قاد الناس للمطالبة بالحرية، وبعضهم قتل وسجن. آخرون يعتقدون أن مجرد الخروج إلى الناس باللحية والجلباب يكفي لقبول تافه القول كما كلام منزل حتى إذا جاءت خطبة الجمعة أخرج الخطبة التي أرسلها الوزير وقرأ على الناس كلام الوزير. لا يُلامون، أحياناً. الدين عندهم مهنة يرتزقون منها.

لبعض اللفظ معنى معروف أينما حل. ولبعض اللفظ أكثر من معنى يحدده سياق الكلام، وليكن «أشرك». الفرق كبير بين القول «أشرك الرجل صاحبه في عمله»، والقول «اشرك بالله»، مع أن اللفظتين واحدة في الأصل لها معنى الاشتراك. إذا جاء دور المفسر في التفسير فاختصاصه أن يشرح اللفظة في موضع سياقها. مثلاً، اختلف المفسرون في الآية: «وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِن» (البقرة 221).

لماذا الاختلاف على لفظة مثل (ْمُشْرِكَاتِ) يعرف معناها صغير العرب وكبيرهم؟ إذا أراد الانسان عين اليقين، فربما شاء أن ينظر ما قالته جماعة الكلام في تفسير الكلمة، ولوجد، إذ ذاك، أنه المعنى الذي يعرفه لا زيادة فيه ولا نقصان: «أَشْرَك بالله جعل له شَريكاً». إذا عاد إلى تفسير الآية اكتشف أمراً عجبا تخطى فيه المفسر حدود التفسير وولج حدود التشريع ووجوب الحكم. هذا اشتغال وهذا اشتغال، هذا تفسير وهذا قانون، هذا رأي وهذا وجوب، هذا إنشاء وهذا خبر.

ثم قال الطبري: «قال بعضهم نـزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك».

هل هذا تفسير من في رأسه عقل للفظة مُشْرِكَاتِ؟ ألا يوجد فرق بين اليهودية والنصرانية والمجوسية؟ ثم ينتبه رجل القوم إلى أن جماعة التفسير لا تعرف كلها فروق معاني كلام المشرك والكافر والمجوسي والوثن. المُشرك ليس كافراً بالله، إي أن نصارى الكاثوليكية ليسوا ممن لا يعترف بوجود الله أو أن ربهم غير رب المسلمين.

إنهم يصلون للرب نفسه، وهم يؤمنون بالله وبالروح القدس، مثل المسلمين، لكنهم يضيفون إلى الثنائي ثالث هو الابن. المسيحيات المتزوجات من مسلمين عبر الأزمنة بالملايين، ومن النصارى من لا يؤمن بالثالوث، فهذا سبب بعض الانشقاقات في الكنيسة.

وكيف يُقال إن اليهوديات مشركات؟ دينهن قال بوحدانية الله المطلقة، ولا يعرف عن جميعهم أنهم عبدوا البقر والعجل؟ أما المجوس فشأن، فلا يُقال «المَجُوسُ جبل معروف جمع واحدهم مَجُوسِيّ… وهو معرَّب أَصلُه مِنْج كُوشْ، وكان رجلاً صَغير الأُذُنَيْن كان أَوّل من دانَ بِدين المَجُوس ودعا الناس إِليه فعرَّبته العرب فقالت مَجُوسَ ونزل القرآن به والعرب»، مثلما قال ابن سيده.

هذا كلام لا يُعتد به ويُهمل. ابن سيده، وغيره، لو فتش عن أصل رجس لوجدها من النواة جس، مثل مجس، ولوجد ان قرينتها سج أصل «سجد والسجود». وإنما اعتقد بعض المنادين بالمجوسية أن الخير من فعل النور وأن الشر من فعل الظلمة. ومن أين أتى المجوس بهذا المفهوم إلا من العرب؟ ألا تقول العرب «عيد الأضحى والاضاحي والتضحية»، لمن كانوا يضحّون إلا للشمس واسمها القديم ضحى؟

وللوثن شأن مثله لكن لحاجة أخرى، فثاؤه من حروف اليهود أو من حروف أقوام ما بين بين (مثل الكنعانيين)، جاء بها تنقيط الكلام، ومن لثغ بهذا الحرف الذي ليس من حروف العرب الأصلاء أو من حروف العاربة. إذا كانت وثن تعني «المقيم الراكد» فأصلها بالسين في النواة وس/أس، ومنها الاست والاساس، فالأساس راكد مقيم على الأرض مثل الاست القاعدة على نفسها.

إذا كانت تعني الأصنام فهي لأن بعضها كان على هيئة الجسم فكانت تُنصب على الأرض في مواسم بعض الأسواق ثم يأخذها أصحابها إلى أسواق أخرى. هذه الأوثان (الأوسان) إلى اليوم يراها الناس خارج الكنس والمساجد وفي الساحات فربما كانت تمثالاً لمريم أو للمسيح، فهل تمثال مريم أو المسيح وثن؟ وليُلاحظ أن وس «وثن» أصل ثنائي منه النسيلة وسم، فهذا شكل كان العرب يسمون به بعيرهم لفصلها عند الحاجة عن بعير غيرهم. إذا رد العرب واو «وسم» إلى الف أصبحت اللفظة «أسم»، فهل أسماء العرب كفر؟ وهل كل من وضع اسم الله في لوحة على الجدار كافر؟

وللرأي المتفرد المحايد ثمن مقبول، مهما ارتفع، يبقى دون الثمن الذي دفعه كثيرون للانتماء إلى الجماعة، فهي، في اعتبار كثيرين، جماعة فيها كهنة الزمان المتعاونين أبداً مع الملوك، فإنما التفسير والفقه، عند البعض، طريق إلى دواوين الملوك وخزائنهم ووظائفهم يتفضلون بها على من فضلهم على الناس جميعا.

التاريخ غير التفسير؛ هذا صنف من المعارف، وذاك صنف غيره؛ هذا محيط اشتغال، وذاك محيط مختلف؛ هذا له منهجية معروفة وذاك منهجية أخرى له. ومع ذلك، لا يجد مؤرخ العصرفي مجلدات تاريخ السلف اختلافاً في المنهجية بين مجلدات التفسير والتأريخ: المنهجيّة نفسها، والعرض نفسه، والرواة هم الرواة، قلّوا أو كثروا. إذا لم يجد مؤرخ العصر مصدراً لاسم يريد أن يتحقق منه، فربما عمد صاغراً إلى مجلدات الانساب. لكن المنهجية نفسها في مجلدات الانساب نفسها، والرواة أنفسهم، قلّوا أو كثروا، والنتائج واحدة والصدقيّة الايمانية واحدة، والصدقيّة العقلانية لا شيء.

ولا يسألن العاقل عن سبب هذا التماثل العجيب لأنه يضيع وقته. اختلفت المقادير والمكونات لكن الطبخة هي نفسها. لماذا؟ لأن الطباخ واحد. لماذا؟ لأن المؤرخ هو المفسر والمفسر هو الفقيه، والنسّاب هو المؤرخ، واللغوي هو المفسر والفقيه والنساب. إذاً، هي جماعة الكلام نفسها، في الجوار ومتناول اليد عدد من الطرابيش يُرفع طربوش التأريخ ويحل محله طربوش التفسير أو اللغة.

إذا شاء مؤرخ العصر أن يكتب عن تاريخ العرب فمن أين يبدأ؟

من نوحّ!

نوح ليس عربيّاً، فكيف يبدأ المؤرخ كتاباً عن العرب من نوح؟

من شالح بن أرفخشذ، إذاً!

ومن هو هذا الآخر؟

أبو عابر؟

لا حول ولا قوة إلا بالله، ومن هو أبو عابر هذا؟

هو جد ابراهيم بن تارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ، فيكون فالغ، أبو راعو وابن عابر في آن.

معقول أن يعطي أب يحب ابنه اسماً مثل ساروغ، أم لعله قصد صاروخ؟ وكيف يكون لبشر مثلنا اسم مثل راعو بن فالغ؟

ما هو مصدر هذه الأسباب العجاب؟

الرواة.

لا حول ولا قوة إلا بالله.

أصاب من قال: علم الأمة من علم علمائها وجهل الأمة من جهل علمائها.

(Visited 3 times, 1 visits today)

Last modified: 31 ديسمبر، 2022

اشترك للحصول على نصائحنا الأسبوعية ، ومهاراتنا ، ومعداتنا ، ونشراتنا الإخبارية الشيقة.
Close