من هو النبي الذي أسرى به الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى: محمد أم إبراهيم؟
سورة الاسراء من السور التي كثر حديث المفسرين في شأنها لأسباب ربما كان أهمها:
ا نص آية افتتاحها: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله».
والاسراء، والغاية منه، واضح تماماً وواضحة تماماً حالته في سبع عشرة كلمة، يُنتقل في الآية بعدها مباشرة إلى موضوع مختلف تماماً يتصل بالتوراة. ومن المفسرين اللاحقين من انتبه إلى ما عرضه السابقون، فساق شرحاً مختصراً في عدد قليل من السطور. هذا في تفسير الجلالين، حيث لا دابة بيضاء بين الحمار والبغل ولا براق. ولو كان الناس اكتفوا به تفسيراً، لما كان بين الناس من شاء من شاء وتحيّر من تحيّر، إلا أن شرح باقي “أئمة” التفسير ليس في الاعتبار كفاية، فتفسير الطبري بين أيدي الناس، مثله مثل غيره، وهو من المصادر المُعتمدة في مدارس التفسير ومواقعه في الانترنت كثيرة.
وتفسير الآية في مجلد الطبري يطول فهو أزيد من سبعة آلاف كلمة، ومعظمه سرد لتصورات المفسرين وتخيلاتهم في شأن الاسراء اختصرها الطبري بقول فصل فرضه على رؤوس رواته هو الآتي: «أولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبرَ أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام، والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه، وقوله: (إلى المسجد الأقصى) يعني: مسجد بيت المقدس، وقيل له: الأقصى، لأنه أبعد المساجد التي تزار، ويُبتغى في زيارته الفضل بعد المسجد الحرام. فتأويل الكلام تنـزيها لله، وتبرئة له مما نحله المشركون من الإشراك والأنداد والصاحبة، وما يجلّ عنه جلّ جلاله، الذي سار بعبده ليلا من بيته الحرام إلى بيته الأقصى.»
هذه سقطة محيرة لمفسر عبقري ظل في معظم مجلدات تفسيره المشهور أميناً لدوره الأساسي محكماً لا مقرراً ثم حدث شيء اضطره إلى إخراج نفسه من دور العارض إلى دور الفارض، ومن التحكيم إلى الحُكم، ومن التأويل إلى التأوّل، ومن القول إلى التقويل، ومن المقر إلى المعترض على تصورات بعض رواته. وهذا موقف نادر من مواقف الطبري، لكنه خروج واضح على النهج الذي وضعه لنفسه بألا «يحدّث إلا إذا قال: حدثني»، فمن الذي “حدثه” بما حدّث، وما هو السبب أو الأسباب التي اضطرت الطبري إلى تجاوز حاجز أقامه هو نفسه وكان عليه ألا يتجاوزه؟
وربما قيل إن المشكلة في تفسير آية الاسراء مشكلة يجدها الباحث في تفسير الكثير من الآيات، أي موضع الفصل البيّن بين التفسير الملتزم بنص الآية أو الآيات، وبين التفسير المتحرر من جوهر نصوص الآية أو الآيات الذي ربما قال باحث في وصف بعضه بـ”المتفلت”.
هذا، أيضاً، شأن محيّر لبعض الباحثين، لا لوجود مجلدات التفسير، لأن بعض الناس ربما رأى فيها شيئاً من فائدة، بل لاتساع نطاق حرية بعض المفسرين في التعامل مع نصوص القرآن حتى في بعض الحالات التي يلجأ فيها المفسر إلى الاستنتاج والمقاربة، وربما التخمين، والنقل من ثقافات الآخرين لعرض تصوّره في التفسير.
والقرآن ليس كتاب الكلام الكثير، وما فيه متسلسل متلاحق مترابط فهمه الناس قبل إخراج التفسير، ويفهمه من لم يقرأ في مجلدات التفسير كلمة واحدة، ويقرأه المسلمون من غير العرب مُترجماً دونما حاجة، يلحظها من يتابع شؤونهم، لمجلدات التفسير.
وما كل الآيات واحدة، ولا المفسرين، ولا الحالات التي تتطلب التفسير واحدة. إحدى مظاهر سوء الفهم، ربما، الخلط بين قدسية نصوص القرآن ولا قدسيّة نصوص التفسير أياً كان المفسر. حتى لو أحاط المفسر كلامه بالآيات القرآنية من كل جانب، فلن يكون لكل ما يقوله أي قدسيّة من أي نوع. هذا في حالات صواب التفسير، ومعظمها في محيط المألوف لأن كتلة الكلام عند معظم المفسرين واحدة في غياب معرفة مباني الكلام. في حالات أخرى يأتي المفسر إلى الآية وفي خاطره حقائب لغوية مُعدة لتفسير الآية ذات الصلة، دونما اعتبار يلاحظه بعض الباحثين للترابطيّة المتوقعة بين نص الآية ونصوص التفسير.
«سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله» (الاسراء 1)، إحدى هذه الحالات. ويتضح للباحثين بعد دراسة شرح تفسير، مثل تفسير الطبري، وجود تضارب تصعب مصالحة وجوده في نص واحد، لأنه من نوع نادر من التضارب المتداخل في آفاق الكلام وأعمدته، وفي أوله كما في آخره، وفي ما يقبله العقل الجدلي وما لا يقبله.
الاسراء من *سر (النجمة رمز النوى اللغوية أو الأصول الثنائية) سار يسير، فهي نواة مُعتمدة في ذاتها لا في نسيلة أو سابقة ثلاثية، وهي في معاني الأصل عمل حركي انتقالي واضح من قرينتها *رس، التي تعني النقيض، أي الرسو والثبات. ولو قيل إن فلاناً سار من البيت إلى المسجد فهذا يعني أنه مشى على قدميه مسافة معروفة، أو أنه ركب سيارة إلى المسجد فتولّت عجلات السيارة العمل الحركي الانتقالي الذي كان عليه أن يقوم به من دون السيارة.
ولا يُقال في هذه الحالة إن السيّارة «أَسْرَت به» وإلا لافترض الناس أن السيارة صاحبة عقل تعرف أين ستقود السائق بقرارها لا بقرار السائق. والفارق بين الحالتين هو الفارق بين الإسراء والتسيير، أي بين «أسرى به» و«سيّره» بالفعل الحركي الانتقالي. والمسافة بين المسجد الاقصى والمسجد الحرام مسافة طويلة لا يتحقق قطعها في ليلة واحدة.
وافترض بعض المفسرين أن الاسراء بالرسول الكريم عمل حركي انتقالي، وهذا يتطلب وجود ناقل غير القدمين لطول المسافة، وغير الدواب للسبب نفسه، أي لطول المسافة. ونقل الطبري عن وعن حتى وصل إلى صعصعة المُعرّف أنه «رجل» من «قوم أنس بن مالك»، فنُقل عن هذا الرجل زعمه سماع كلام نسبه إلى النبي، ثم عاد الطبري إلى راوية سبقَه هو قتادة فأتم القصة من دون سند واضح.
هنا لا يوجد إسناد مقبول ولا يستوي أن ينقل الطبري عن “رجل من قوم أنس بن مالك”، لكن ما نقله هذا الرجل أو ذاك عن هذا أو ذاك الآتي: «فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه، ثم حشي إيمانا وحكمة، ثم أتيت بدابّة أبيض -».
وينقطع الحديث هنا ليُقال على لسان الطبري، أو هذا الرجل أو ذاك: «وفي رواية أخرى»، لم يكشف القائل صاحبها، «بدابة بيضاء يقال له البراق، فوق الحمار ودون البغل يقع خطوُه منتهى طرفه، فحُملت عليه ثم انطلقنا حتى أتينا إلى بيت المقدس فصليت فيه بالنبيين والمرسلين إماما، ثم عُرج بي إلى السماء الدنيا.»
*و«بيت المقدس»*، في ما نقله الطبري عن رواته، غير «المسجد الأقصى» لأن المعروف للناس أن «بيت المقدس» هي «القدس». ونقل الطبري بعدها عن ابن اسحاق وغيره رواية باختلاف: «بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعي، فجاءني الثانية فهمزني بقدمه، فجلست فلم أر شيئا، فعدت لمضجعي، فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه، فجلست، فأخذ بعضدي فقمت معه، فخرج بي إلى باب المسجد، فإذا دابة بيضاء بين الحمار والبغل، له في فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع يده في مُنتهى طرفه، فحملني عليه ثم خرج معي، لا يفوتني ولا أفوته».
وربما قيل هذا وصف شاهد عيان لا وصف مفسر لحادثة واقعة في عقل الطبري ومن نقل عنهم لا غير. وإن تجاوز الانسان مثل هذه الشهادة، ربما اتضح له أن الطبري انتقى من الروايات ما قدمها على غيرها، وساق فيها وصف دابة أسطورية بين الحمار والبغل قادرة على التحليق إلى مكان في السماء حيث الله.
أما وقد صب الطبري كل هذا في عقل القارئ، واشتغل عليه بالأقنَعة الذاتية، وسنده بالرواة وأحاديث الرواة، انتكص على عقبي كلامه فقال: «ثم اختلف أهل العلم في صفة إسراء الله تبارك وتعالى بنبيه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فقال بعضهم: أسرى الله بجسده، فسار به ليلا على البُراق من بيته الحرام إلى بيته الأقصى حتى أتاه، فأراه ما شاء أن يريه من عجائب أمره وعبره».
الاختلاف على الشيء اختلاف على حقيقة الشيء أو خلافها، وكان ينبغي على الطبري أن يبيّن أوجه الاختلاف في الرواية في أول التفسير لا بعد عرض الرواية التي اختار عرضها. أما وقد عرض الطبري اختلاف «أهل العلم» في صفة الاسراء بتعميم غامض لا سند فيه، أضاف: «حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن الرسول أُسري به على البُراق، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام.»
وقيل في الشرح: «يا جبرائيل من هذا الأشمطُ، ثم من هؤلاء البيضُ وجوههم، ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء، وما هذه الأنهار التي دخلوا، فجاءوا وقد صفت ألوانهم (؟)، قال: هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه: فقوم لم يُلبسوا إيمانهم بظلم، وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء…» (1)
ونقل الطبري في متن تفسير آية الاسراء «أن معاوية بن أبي سفيان، كان إذا سئل عن مسرى رسول الله قال: كانت رؤيا من الله صادقة»، ونقل عن عائشة بتلاحق الرواة: «ما فقد جسد رسول الله، ولكن الله أسرى بروحه»، فتدخل الطبري قافزاً فوق قولي معاوية وعائشة ليقول: «الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، كما أخبر الله عباده، وكما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله، أن الله حمله على البراق حين أتاه به، وصلى هنالك بمن صلى من الأنبياء والرسل، فأراه ما أراه من الآيات؛ ولا معنى لقول من قال: أسرى بروحه دون جسده، لأن ذلك لو كان كذلك لم يكن في ذلك ما يوجب أن يكون ذلك دليلا على نبوّته، ولا حجة له على رسالته، ولا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك، وكانوا يدفعون به عن صدقه فيه، إذ لم يكن منكرا عندهم، ولا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو على مسيرة شهر أو أقل؟ وبعد، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده، ولم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، وليس جائزا لأحد أن يتعدّى ما قال الله إلى غيره.»
والجملة الأخيرة في كلام الطبري خروج على مبدأ التأويل، كما فهمه الطبري وغيره من المفسرين، وانتقال لا مسوّغ له إلى ما يشبه «البيان» الطبراني فسّره البعض بأنه رد على ما عرضه معاوية وما ذكرته عائشة. وإذا استُعبد معاوية فإن عائشة ليست من الرواة العاديين لأنها أدرى من الطبري ومن رواته جميعاً بمكان زوجها «ليلة الاسراء».
إن محاولة فهم موقف الطبري من هذه الرواية بابها التساؤل عن سبب اللجوء إلى تعامل عاطفي مع مسألة تطلبت قدراً مناسباً من مقادحة العقل الجدلي، وما إذا كانت القبوليّة التأسيسية وافقت نمو العقل ثم استوقفت نفسها قبل اكتمال هذا النمو لسبب من الأسباب. وليس للمرء أن يفهم من هذا أن بعض المسلمين لم يقتنع بالاسلام إلا بعد مقادحة جدليّة باطنية وخارجية طويلة، وإنما تشترك الأديان كلها تقريباً في بدء عمل التلقين الإيماني المنزلي أو المجتمعي في مرحلة ليست بعيدة عن الطفولة، فيلج التلقين إلى العقل الباطن، ويستوطنه، فهو آمن على نفسه من شكوك العقلنة في كهفه العميق، لأن الحواجز التي يقيمها العقل الجدلي لفلترة المحتوى تطوّر لاحق يتطلب التكوّن خارج كهف العقل الباطن في حالات.
وأهل الكلام يأخذون الكلام ومعانيه من المصادر نفسها تقريباً، فتترسكل في المحتوى المتقارب بالطبيعة. وبما أن تكثير معاني لفظة سائرة لا يتحقق بمعرفة معاني الأصل الرحمي للفظة تلك، والسحب الطبيعي منه، يجد الباحث في مئات لفظات المعاجم تكثيراً عماده مقاربات اللفظ ومصاقبات المعاني والسحب الفالت من تفسير الشعر والسرد والخطابة، وغيرها. وعندما يراكم التراجمة المعاني على كتفي كلمة بذاتها ابتكرها الناس في زمانها للدلالة الأكيدة على شيء أو حالة بذاتها، فما يحصل أحياناً أن حدود المعنى الأصلي تبدأ بالتلاشي، ولا تلبث أن تتداخل وتتمازج فتفقد خصوصياتها المعانيّة، وتصير كما أختها.
ونيّة الطبري حسنة لا ريب لكن التفسير ليس بالنيات وإنما بالنص المفسّر، ذلك أن الطبري صاحب أكبر مجلد في تفسير القرآن، وربما أهم تفسير للقرآن، فهذه مرتبة عالية، ويجب أن يخضع الطبري للمساءلة في أسباب وقوفه إلى جانب الاسراء الجسدي، فبعلو المرتبة العلمية العالية تأتي المساءلة الأعلى لأن الطبري ليس واحداً من المفسرين.
إذ نُظر أمره، فربما تبيّن أن المشكلة ليست في اختلاف قراءة آية بالعربية، وإنما الاختلاف في طبيعة الحضارات والثقافات التأسسية التي لا يستطيع الانسان تحت ضغط عاطفي معين منعها من التعدي على نطاق دلالات معاني الكلام إلى حد محاولة إجبارها على تحميل نفسها المعاني التي ليست لبوسها الصحيح.
إن سماح الطبري لعاطفته بامتطاء عقله لم يفرض على لسانه مخالفة من قال إن الاسراء كان روحيّاً لا غير، وإنما تجاوز أيضاً حدود التحكيم التي فرضها على نفسه بفرض الاسراء الجسدي على الناس، واتهم من خالفه بالتعدي على ما قال الله إلى غيره، أي أن المخالف لا يخالف الطبري بل يخالف الله، كما زج في أتون دفاعه بياناً آخر فهمه البعض بأنه وصف من أنكر الاسراء الجسدي بـ«أهل الشرك».
إذا أراد الطبري أن يؤمن بالاسراء الجسدي فهذا حقه يعتمد فيه على القبول الايماني الذي لا يحتاج إلى أي نوع من أنواع الاقناع الأخرى لكن ليس في تفسيره لأنه ألزم نفسه بنقل أحاديث الرواة. الأهم من ذلك، ربما، هو أن المادة التي عرضها لاقناع الآخرين بالاسراء الجسدي لا تبدو مناسبة. الرواية الأولى التي عرضت أول الفصل تبدأ بالقول: «بينما أنا عند البيت بين النائم واليقظان». الرواية الثانية فيها: «ما أُسري برسول الله إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة». في رواية ثالثة: «بينما أنا نائم في الحجر». التركيز على تفاصيل الروايات الثلاث تجاوزٌ لحالة هي حالة النوم أو حالة بين النوم واليقظة.
في مكان آخر نقل الطبري عن بعض رواته: «أن رسول الله أُسري به على البراق». البرق من كلام العاربة لكن مفهوم البراق مختلف. الطبري حدد البراق دابة ابراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام في مكة، لذا فإن المكان المناسب لكشف أصل مفهوم البراق ليس مكة بل أقليم بابل الذي يُقال إنه موطن ابراهيم.
ويمكن أن تُعبّر الصورة عما لا يستطيع الكلام التعبير عنه، لأن العقل البشري يتعامل أفضل ما يتعامل مع الصور المتحركة لا مع الكلام الجامد، فيتقدم احتفاظ الذاكرة بها على الاحتفاظ بهياكل الكلام.
واعتاد أهل فارس وشمال الهند تصوير العجائبيات والملوك والأمراء والحيوانات والبشر، وهذا ما يجده الناس على غلاف تاريخ الطبري في ترجمة فارسية من القرن الرابع عشر، وكذا تصاوير كثيرة أخرى لمولد النبي وخطبه في الصحابة وغيرهم من المؤمنين، أو للملائكة في حضرته، أو وهو على صهوة البراق. وليست الدابة البيضاء بين الحمار والبغل ما ارتقى في الاسراء في التصاوير بل كائن عجائبي نصفه امرأة حسنة التصوير ونصفه حصان أصيل، وهذه صورة معروفة باسم «المعراج»، فيما توجد تصاوير ولوحات فارسية لبعض الملائكة ومنهم جبريل.
مثل هذه التصاوير في اعتبار بعض المسلمين العرب كفر وشرك وتجسيد وتشبيه الخلق لسبب لم يشرحه أحد باقناع بعد. بعض المسلمين العرب ليسوا من يقول هذا بل ثقافتهم تقول. ذلك أن الثقافة في جزيرة العرب ثقافة تعبيرية ملفوظة مسموعة لقيامها على الشعر، فتعبيرها الرسومي ضعيف لضعف مهارة الرسم وقلة السطوح اللازمة للتعبيرين الكلامي والتصويري معاً. ما يعتبره بعض المسلمين العرب كفر وشرك، يعتبره بعض أهل فارس تكريماً وتمجيدا. إيمانهم، في اعتبارهم، ليس أضعف من إيمان العرب، فهم معنيون بإعلاء الاسلام كما العرب معنيون لأن الدين واحد. لكن العرب تقول إعلاء «كلمة» الاسلام، فيما الاعلاء عند بعض الفرس، وغيرهم، «الكلمة والصورة».
أهل فارس أدرى من العرب بما يزيد إيمان أهل فارس. الطبري، وهو منهم بالمولد والنشأة الأولى، كما يُقال، أدرى من غيره من أهل التأريخ والتفسير في بغداد بما يمكن أن يخدم الاسلام ويعزز انتشاره والإيمان به بين أبناء جلدته. الفتح الاسلامي فتح فارس لكنه لم يفتح قلوب كل أهل فارس، فضمر بعضهم للعرب جراء التسبب في تقويض حكم الأباطرة، وإعلاء أكلة الضب وركبة البعير على أكلة اللوزينج والفالوذج وركبة الفرس، فيما شعر آخرون، ابن خلدون (ج1، ص 544) منهم، أن مساهمة العلماء الفرس في علوم الفقه والتفسير والحديث والكلام أعظم من مساهمة نظراء القلة بين العرب بشهادة الرسول، ورأى فرس كثيرون أن أرحام بناتهم ليست أقل قدرة على إنجاب الملوك والخلافاء من أرحام العربيات، ولهم نصيب كبير يستحقونه عن جدارة في الاسلام، وفي حكم الاسلام، إن لم يتبدّى طوعاً بالعلوم والثقافة، فلعله يتبدّى بطرق أخرى.
وانتزع بعض الفرس من العرب ما اعتبروه حقاً فطابت خواطرهم، لكن هذا في زمن لاحق سبقته فترات صعبة أثارت مشاكل عميقة بين العرب والفرس، فاستوجب ذلك ابتكار الحلول المناسبة لها. هكذا الأمر في أزمنة سالفة في بلاد إسلامية أخرى كان، تماثل أو اختلف، ونقص أو زاد، وهو هكذا في زماننا بالمقادير المشابهة.
وليس للبراق وجود في العالم الكائن لأنه مصنوع من مادة غير المادة التي يُصنع منها الخلق، لكنه موجود في مادة أخرى أنتجها الخلق في عقولهم ليس في زمان الطبري وليس في زمان الاسلام بل في زمان أقدم منهما بكثير.
البراق ليس أسطورة انفرد بها الطبري ومصادره السائرة، لأنها سبقت الطبري وسائر رواته بألوف السنين. الآكادية كلام الآشوريين خلّدته صلصاليات ألفيّة العمر. وجاء البابليون بعدهم وخلدوا كلامهم المماثل في صلصاليات مماثلة وكان آخر ما عثر عليه المنقبون في العراق صلصالية عمرها نحو 2100 سنة هي الأخيرة من مئات الألوف من الصلصاليات التي خلدت نصوصاً في حقول المعارف الانسانية كافة بما يشمل الفلك والرياضيات والتاريخ والقانون والأساطير والأدب والشعر.
في إحدى الصلصاليات يرد ذكر البراق barāqu ضمن تصنيف كلام السماء والطقس، وهي بمعنى الاضاءة واللمعان. البراق من برق وبرق من *بر لأن البر مكان التماعه، ولها ثبت أكيد birqu من معانيها: برق السماء والصواعق، رمز البروق السماوية (rigim Adad)، يرجمها الرب *أد أو أدد.
*أد لم يكن أول آلهة البروق والرعود والصواعق، ويبدو أن كثيرين سبقوه في تاريخ طويل يمتد خارج بلاد الأديان إلى مناطق شمال الهند التي يعتبرها بعض اللغويين موطن الأصل اللغوي الذي انحدرت منه اللغات الهندية-الأوروبية. من هذه الأصول القديمة انتشر الاعتقاد بوجود إله للبروق والصواعق إلى أوروبا لكن أسماء الآلهة هذه ظلت قريبة من الأصل اللغوي *بر ← برق كما في اللفظتين المؤصلتين في أسرة اللغات الهندية-الأوروبية بيركوونوس *perkwunos وبيركونوس *perkunos بفارق بسيط بين الاسمين، وباختلاف عن هذا الأصل اللغوي في لغات أوروبية مثل الحتيّة والچاليّة والألمانية القديمة، وغيرها، وربما كان بيركونوس أصل الاسم السنسكريتي بريانيا Parjanya، إله الصواعق والعواصف الرعدية.
سيُتبع هذا المقال بمقال آخر عن المعراج والختام لغوي تأصيلي. في آية الاسراء تكرر لفظ “المسجد” مرتين. هذه الكلمة ليست عربية الأصل بل سومرية انتقلت إلى الآكادية (الآشورية والبابلية) بعد اتحاد الأموريين وبقايا السومريين، وهم من أمة تتضمن الكنعانيين. الأصل السومري سﭺ (sag) وهو مخلد في كلا السومرين والآكادية، فهذا بعض تخليد الآكادية:
• sagdullu: [Clothing] a headdress;
• sāgittu: [Religion] a priestess;
• sagrikku: [Country → Agriculture] a staw-bale , a bale of straw ;
• sāgu (2): [Religion] a sanctuary, a cella, a holy place.
التخليد الأخير في هذه اللائحة القصيرة ملفت: “مكان مقدس” (a holy place) يمكن ترجمته إلى العربية “بيت الله”، أي “المسجد”، ولفت أعلاه إلى انتماء ابراهيم، حسب روايات، إلى الاقليم البابلي.
(1) في الشرح أن الله كلمه (أي الرسول) «عند ذلك، فقال له: سل، فقال: اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما، وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داود ملكا عظيما، وألنت له الحديد، وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، وسخرت له الجن والإنس والشياطين، وسخرت له الرياح، وأعطيته ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وعلّمت عيسى التوراة والإنجيل، وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله، وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم، فلم يكن للشيطان عليهما سبيل. فقال له ربه: قد اتخذتك حبيبا وخليلا وهو مكتوب في التوراة: حبيب الله؛ وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك أمة وسطا، وجعلت أمتك هم الأولون والآخرون، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة، حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي؛ وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أناجيلهم، وجعلتك أول النبيين خلقا، وآخرهم بعثا، وأولهم يقضى له، وأعطيتك سبعا من المثاني، لم يعطها نبي قبلك، وأعطيتك الكوثر، وأعطيتك ثمانية أسهم الإسلام والهجرة، والجهاد، والصدقة، والصلاة، وصوم رمضان، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وجعلتك فاتحا وخاتما، فقال النبي: فضلني ربي بست: أعطاني فواتح الكلم وخواتيمه، وجوامع الحديث، وأرسلني إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، وقذف في قلوب عدوي الرعب من مسيرة شهرٍ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي، وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا.»
الصورة في نص هذا المقال:
1- تصوير محدث للبراق من أصل عمل في الهند في القرن السابع عشر
“Al-Buraf Hafifa” by Original uploader was Zora at en.wikipedia Later version(s) were uploaded by Irishpunktom at en.wikipedia. – Transferred from en.wikipedia. Licensed under Public Domain via Wikimedia Commons – http://commons.wikimedia.org/wiki/File:Al-Buraf_Hafifa.jpg#/media/File:Al-Buraf_Hafifa.jpg
2- رسم على رق عمل في تبريز (فارس) سنة 1307 م زين به كتاب جامع التواريخ للمؤلف رشيد أو راشد الدين محفوظ في مكتبة جامعة أدنبره في المملكة المتحدة، وفيه رسم للبراق.
3- تصميم الاسراء والمعراج – شبكة التصاميم الشيعية
Last modified: 31 ديسمبر، 2022