57:5:1 الطبري: «القول في تأويل قوله تعالى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمّةً واحدةً – المائدة 48): الشّرعة: هي الشريعة بعينها… وكل ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة، ومن ذلك قيل لشريعة الماء: شريعة لأنه يُشرع منها إلى الماء، ومنه سُميت شرائع الإسلام شرائع، لشروع أهله فيه، ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشّيء: هُم شرع سواء. وأمّا المنهاج، فإنّ أصله: الطريق البيّن الواضح.»
وتوافق كلام الخليل في كتاب العين مع كلام المفسرين فقيل في ترجمة شرع: «شرع الوارد الماء شروعاً وشرعاً فهو شارع، والماء مشروع فيه إذا تناوله بفيه. والشّريعة والمشرعة: موضع على شاطئ البحر أو في البحر يُهيّأ لشُرب الدواب، والجميع: الشرائع، والمشارع. والشريعة والشرائع: ما شرع الله للعباد من أمر الدين، وأمرهم بالتمسك به من الصلاة والصوم والحج وشبهه، وهي الشّرعة والجمع: الشرع» ( العين، شرع).
ويبدو لتأصيل الكلام من تحليل معاني «شرعة»، كما حددتها جماعة الكلام في التفسير والمعاجم أعلاه، أن الجماعة أقامت مفهوم الشرع والتشريع على مفهوم أرضي يختلف عن مفهوم الشرع السماوي المُحدد في القرآن. إذا كان مفهوم الشرع كما عرضه شيوخ الجماعة في التفسير والترجمة فربما استنتج باحثون أن أساس منح بعض جماعة الكلام أنفسهم الحق في التشريع للناس باطل، وربما كان أساس الشطط الحكمي الاعتباري في حالات.
ما تقوله الآية يختلف عما تقوله جماعة الكلام، ذلك أن اشتغال بعض القوم بالتشريع للناس هو السبب في نزع التشريع من يد البشر وإعادته إلى السماء لأنّ بعض التشريع البشري كان متوافقاً مع «أهوائهم» لا مع الشرائع الالهيّة. إذا لم يتوافق تشريع الأرض مع تشريع السماء فلا توافق له مع مصالح الناس، وهي في الاعتبار السماوي مصالح واحدة لأن الله يريد للناس الخير لا الشر، والاتفاق لا الخلاف، والسلام لا الحرب، والعدل لا الظلم. من هنا كانت الآية واضحة في مصدر التشريع الوحيد «فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم».
ويبدو لتأصيل الكلام أن بعض جماعة التفسير اعتبر فهمه للآيات القرآنية ذات الصلة ملازماً للمقصود بالآيات أو صورة له، فيما يمكن اعتبار هذا الفهم البشري من أشكال التخمين، أو ربما الكهانة كما زعم بعض الباحثين، أساسه التوهّم أن أصل «شرع» من «شريعة الماء»، و«منهُ سُمّيت شرائع الإسلام شرائع».
وفي مفاهيم جماعة الكلام اختلاط سببه الجماعة نفسها لأنها جمعت في تعريف «شرع» معاني نواتين لغويتين مختلفتين في مطلب ثلاثي واحد. أول النواتين *شر، ومنها «شرب وشراب وشوربة وشرشرة الماء» ونحوه. إذا كان التشريع الأرضي في نواحي الورود والشرب والماء فهذا شيء، إذا كان التشريع في الصلاة والصوم والحج، وشبهه، فهذا تشريع إلهي واضح لا يعتمد في مفاهيمه معاني *شر بل معاني نواة مختلفة هي *رع، وهي اسم معروف من أسماء الله واضح في مفاهيم «الرعاية» الالهيّة وفي اصطلاح الناس على عدد من التعابير الشائعة مثل «رعاه الله» و«في رعاية الله»، ونحوهما.
وليس من أحد من المفسرين والمعجمين مسؤول عن هذا الاختلاط الشائع في معاجم العربية والتفاسير على نطاق واسع، فأساسه تاريخي سبقهم جميعاً سبّبه ظنُّ جماعة الكلام أن المطالب الثلاثية أصول كلام العربيّة. وبما أن المطالب الثلاثية اشتقاق من الأصول الثنائية الحافظة لمعاني اللفظ، فقد تسبّب فصل المطالب الثلاثية عن أصولها الثنائية في جمع المعجمين والمفسرين معاني أصلين مختلفين في ترجمة عشرات المطالب الثلاثية، «شرع» واحدة منها.
ولعله اتضح الآن أن «شرع» من كلام العاربة قبل أن يصبح من كلام بنتها العربية، وأن «التشريع» حق إلهي خالص لا مشاركة فيه لأحد، لأن مصدره *رع وليس *شر. وإذا قيل «الشّريعة والمشرعة: موضع على شاطئ البحر أو في البحر يُهيّأ لشُرب الدّوابّ»، فهذا من شرع نسيلة *شر. إذا قيل «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» فهذا من شرع التي هي سابقة ثلاثية للنواة *رع. ويتبع هذا التفريق الحرج تسليم المفسرين أن التشريع لا يكون إلا لله، فليس للصلة بين الله والتشريع لفظة أوضح من «شرع» الالهية لا المائية، وهي لا تقبل التأويل البشري لأن معنى التأويل في الأصل إعادته إلى «الأوّل»، أي إلى الله، فهذا مما لا قدرة للبشر على الوصول إليه، باستثناء الأنبياء.
- من فصل “الرعد”، أصل الأديان، عادل بشتاوي
تشريع ابن عباس ومفسرين غيره باطل لاقامته على لبس في فهم معنى “شرع” (2)
Last modified: 4 يناير، 2023