في البشر بقلم

آباء البشر: سُم (1)

ميناء سمهرم التاريخي في سلطنة عمان

ربما بدا لبعض الباحثين أن جماعة تفسير القرآن الكريم لا تعترف بجهل فلبعضهم في كثير الأشياء أقوال لو درسها الباحث جيداً لاكتشف من غير بطء أن صورة الأشياء غير ما تصورتها الجماعة. من عشرات الأمثلة ما ساقه الطبري في تفسير سورة الشعراء، وهي واحدة من سورتين افتتحتا بلفظة “طسم”:

القول في تأويل قوله تعالى: طسم ( 1 )  تلك آيات الكتاب المبين:

قال أبو جعفر (أي الطبري): وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما في ابتداء فواتح سور القرآن من حروف الهجاء، وما انتزع به كل قائل منهم لقوله ومذهبه من العلة. وقد بينا الذي هو أولى بالصواب من القول فيه فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته، وقد ذكر عنهم من الاختلاف في قوله: طسم وطس، نظير الذي ذكر عنهم في: ( الم ) و( المر ) و(المص). وقد حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: ( طسم ) قال: فإنه قسم أقسمه الله، وهو من أسماء الله. حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: ( طسم ) قال: اسم من أسماء القرآن.
فتأويل الكلام على قول ابن عباس والجميع: إن هذه الآيات التي أنزلتها على محمد صلى الله عليه وسلم في هذه السورة لآيات الكتاب الذي أنزلته إليه من قبلها الذي بين لمن تدبره بفهم، وفكر فيه بعقل، أنه من عند الله جل جلاله، لم يتخرصه محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتقوله من عنده، بل أوحاه إليه ربه.

وليس في ما ختم به الطبري ضير وإن كان من نوع العموميات لكن عندما يزعم ابن عباس أن “طسم” “قسم أقسمه الله وهو من أسماء الله” فما هو الاثبات؟ لا شيء سوى ابن عباس نفسه الذي اعتبر نفسها نهاية الكلام في القرآن.

طسم ليسوا من العرب لكن القبيلة من أشهر قبائل جزيرة العرب عرفهم الناس والتاريخ في لاحق الزمان بأسماء عدة منها “الكنعانيون” الذين عرفهم اليونانيون باسم “الفينيقيين”.

ومعروف أن شبه جزيرة العرب محاطة بتضاريس لها أسماء بالعاربة مشتقة من النوى اللغوية التي هي أصل العربية، وسبقت الاشارة إلى أصل اليمن (*يم، أي البحر)، والشام (*شم، أي اتجاه سير الأقدام شمالاً)، والحجاز (حچ حج)، إلا أن أصل «عراق» يبدو أورك، وهي اسم المدينة السومرية المشهورة. بدل العين من الهمزة والهمزة من العين معروف من أمثلته: *ال *عل سمعل سمأل، وغيرهما.[1]

أد، عد، سم، سومر، شومر، شممش، سممس

انتقال البحث إلى مستوطني هذه البلاد أسهل فليس لمعظم العرب أصل بشري سوى العاربة، ولا يوجد موطن أصلي لمعظم العاربة سوى جزيرة العرب. العاربة مفهوم اصطلاحي لغاية البحث يشمل قومين أساسيين هما قوما *أد وعد لم يكن للفظة عرب مكان في كتلتهما اللغوية لأن ابتكارها إخراج نسلهم البعيد. في ألفيّة لاحقة انضم إلى القومين قوم ثالث من مرتفعات افريقيا الشرقيّة: «سم» أو «السم»، فصار في جزيرة العرب ثلاثة أقوام معروفة بأقدم أنواع مباني الكلام، أي النوى اللغوية أو الأصول الثنائية: *أد، عد وسُم.

من صفحات التاريخ المُستند إلى تحليل نتائج المسوحات الأثرية في جنوب العراق أن الكتابة بدأت في سومر، وأن ألواح الكتابة الأولى كانت تُصنع في أورُك. التأصيل اللغوي استنتج أن السومريين وصلوا إلى جنوب العراق من موانئهم في عُمان، ولهم مراكزهم المعروفة في صور وسمهرم والبحرين القديمة. «سومريون» لفظة الباحثين الأجانب الذين يقولون إن سومر استوطنها قوم ليسوا من «الساميين» بين 5500 و4000ق.م. لكن أصل اللفظة سُمر، فهي تمييز للون بشرة السم. هي ليست لفظ اسمهم بل kien-ĝir15 التي تعني «أرض (كي) المتمدّنين (ان) الملوك (چر)». اسمهم في الآكادية شوميرو šumērû، وكلامهم شومير šumēru، بياء مُخففة (كما في المحكيّة ليش).

ويبدو لتأصيل الكلام أن شومر لغة بالشين وترد في كلامهم، في حالات، بالشين والسين. السبب أن الاسم صفة طبيعية لشكل أنوفهم ذات الفطس الخفيف. الأنف في اسمهم مُعرّف بحاسة أساسية هي الشم، فهي الأصل الثنائي نفسه، أي *شم. المشكلة هنا هي أن شم بمعنى الحاسة تتراكب مع لفظة أخت هي اتجاه الشمال، ومعنى الشمول. *سم تعني الثقب ومنه سَمَعْ (لأن السمع يتحقق من خلال ثقبي الأذنين) والمسام. ما يقترحه تأصيل الكلام على الباحثين الزملاء اعتماد الفصيلة اللغوية شممش أصلاً أقدم لارتباطه بالمشي وباسم الشمس الأول (*مش) فتتضمن كتلة الكلام القديم، إذ ذاك، فصيلة لغوية أخرى هي سممس، وتكون مسم (مسام) سابقة ثلاثية للنواة *مس، لكن ليس *مس بمعنى اللمس فهذه من *مش. قوم السُم، بذلك، اسم متراكب يُفصل عن الفصيلة الطبيعية سممس ويُميز بضم السين: سُمر في الحالات المناسبة.

چر، وچرّ، سُمروت، سمر، سُمْك

چر نُقلت إلى الآكادية بصيغتين: چير gīru، وچرّ girru براء جارية (ررر). ولكلا اللفظتين المعاني نفسها: النار (-الإله)؛ چير إتانپخ (اتا نفخ) gīru ittanpaḫ: أُوقدت النار (بالنفخ)؛ أنا چيري أقم ina gīri aqmu: أنا أحرقتُ بالنار. إلا أن چر في إحدى الحالات تعني مدينة بابل: سيما چر simma gir: وزير بابلي، فكأنَّ «سيما» من السمو أو الارتفاع. وهذا، كما يرى تأصيل الكلام، وصف غير السم لهذا القوم المتميز، أمّا الاسم الذي عرّفوا به أنفسهم فتعبير ثلاثي يعني «شعب الرؤوس السوداء».

وفي العربية عدد من اللفظات الوصفيّة الجسدية لقوم السم أو نشاطات عُرفوا بها، منها: سمرت: «السُمروت: الرجل الطويل»، ومنها: سمحج: «السمحجة: الطول في كل شيء»، ومثلها: سمق: «سمق النبت والشجر والنخل فهو سامق: ارتفع وعلا»، وسمرطل: رجل سمرطل وسمرطول: طويل»، وسمغل: «المُسمغل من الإبل: الطويل»، وربما كان أصلها سمرچل لأن بعض كلام الجيم المثلثة يُرحّل إلى الغين. أما أقرب لفظتين في العربية لقوم السم فهما «سمد» و«سمر». لسمد عدد من المعاني المتصلة بالامتداد، فهذه من الأصل الثنائي *مد. أما ما يتصل من المعاني بالأصل العرقي *سم فهو اللهو والطرب والغناء.

في ترجمة سمر: 1) السمرة منزلة بين البياض والسواد في ألوان الناس وغير ذلك؛ 2) السمر: السمر والسامر: مجلس السُمّار؛ 3) السمر: شدك شيئاً بالمسمار (يمكن أن يعني هذا أن السم أول من ابتكر المسامير ربما لصناعة السفن لأنهم أهل هذه الصناعة والملاحة، وربما مثلها «السميك والسماكة» في الأشياء كالخشب وغيره).

الصناعة والملاحة والتجارة والفنون والموسيقى والعمارة بعض المهارات التي اشتهر السم بها، إلا أنهم أكثر من هذا فربما كانوا أول من ابتكر الكتابة. السم أهم أمّة تجارية في العالم القديم لكن البضائع لم تكن كل ما ما نقلته سفنهم في حوض البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر والخليج وبحر العرب وما وراءه في أعالي البحار، بل يُقال إنهم وصلوا إلى اميركا عندما انتقلوا إلى قرطاجة بعدما اجتاح الفرس ممالكهم على ساحل البحر الأبيض المتوسط الغربي. هم أسسوا بعض أشهر المدن المطلة على البحر الأبيض المتوسط، وهم نقلوا الأبجدية والعلوم والمعارف إلى اليونانيين وغيرهم، وربطوا الكثير من أجزاء العالم القديم. ليست مبالغة، إذاً، استنتاج بعض أهم خبراء السومرية، ومنهم صموئيل كريمر، أنه لا يوجد بين أمم البشر من قدم للثقافة البشرية ما قدمه السومريون. [2]

السم «ورشة» صناعة الأديان في العالم القديم، لذا من الصعب على الباحث تحديد خارطة الأديان في بلاد العاربة ما لم يعرف جيداً عمق المشاعر الدينية المتأصلة في البناء النفساني الكنعاني، ودورهم الحرج في نشر الأديان وتعميم رموزها الأساسية في البلاد التي حلّوا فيها، وولاءهم التاريخي لقوم *أد وعلاقتهم بنسله من الأموريين والطائيين والعمالقة في جزيرة العرب أو في فلسطين وسورية، ثم في بلاد الرافدين اعتباراً من المئات الثلاث الأخيرة من الألفيّة الثالثة ق.م.

الكنعانيُّون 

الحجر أو مدائن صالح – الهيئة العليا للسياحة في السعودية

قيل في لسان العرب: «الكنعانيُّون كانوا أُمة يتكلمون بلغة تُضارعُ العربية» نقل النسابون العرب عن مصادرهم اليهودية تأصيلهم في كنعان وتأصيل كنعان في أبيه نوح. ويكرر العهد الأقدم ذكر كنعان وتصاريفه 164 مرة، وذكر السامرة 113 مرة، وبلاد فينيقية، التي تُجمع إلى سورية، ست مرات فالحضور الكنعاني في كتب اليهود كبير يعكس أهميتهم عند الكهنة الذين وضعوا الكتب تلك أو عدّلوها في مراحل لاحقة. ولا يرى تأصيل الكلام مصدراً مناسباً للسامرة والسامريين سوى السم، فلعلها من مناطق أهل السم في فلسطين. الكنعانيون جزء من قوم السم لكن الكنعانية ليست في الأصل اسم قوم بل وصف ملة دينية تماثل الاسلام، أو ربما كان لها الأصل «الابراهيمي» نفسه أو أصل مختلط. بما أن اليهود أنكروا على الكنعانيين مبدأ التوحيد فإن مجرد الاشارة إليهم باسم «الكنعانيين» اعتراف لغوي بأنهم من الموحدين بالله لما بُيّن من أن كنع تعني الخضوع لله. هذا في عهد الكتب اليهودية، أمّا تأصيل كنعان في نوح فيعني أن أحد أبناء رجل الطوفان من الموحدين لله، فالتوحيد معروف من أيام نوح.

ويتساوى كهنة الأديان جميعاً في جهلهم لأصول الكلام، لذا فإن توظيف تأصيل الكلام لتفكيك كلام الأديان وإعادة بنائها وفق أصولها الثنائية محرج، في حالات بعينها. مثلاً، إذا كان في أسماء أول الخلق الله وآدم وحواء وكنعان ونوح، وغيرهم، فهذه جميعاً أسماء عربيّة لها أصول ثنائية عربية، بما فيها اسم الله *ال. إلا أن بعض الحالات يتضمن خلطاً في تواتر التاريخ. مثلاً، في انجيل مرقس: «وكانت الامرأة أُمميّة، وفي جنسها فينيقيّة سوريّة» (26:7)، إلا أنه معروف أن الفينيقين ارتحلوا إلى قرطاجة بعد احتلال فارس بلادهم، وكانت روما قهرت القرطاجيين وخربت قرطاجة في نهاية الحرب البونية سنة 146ق.م، فلم يبق شيء اسمه «فينيقية» لا في الشرق ولا في الغرب. مع ذلك في أعمال الرسل (2:21): «فإذ وجدنا سفينة عابرة إلى فينيقية صعدنا إليها وأقلعنا

[1]  قيل في ترجمة أدأ: «أهل الحجاز يقولون: استأديت السلطان على فلان، أي استعديت فآداني عليه، أي أعداني وأعانني.» وقيل في ترجمة أجأ: «الجوهري: أَجأ وسلمى جبلان لطيىء يُنْسب إليهما الأجئِيّون مثل الأجعِيُّون». ما يُفهم من الشرح أن بدل الهمزة من العين في بعض اللفظ اشتغال أهل الحجاز، إلا أن دراسة بعض فصائل قوم أد يعطي الانطباع أن بدل العين من الهمزة ربما كان اشتغال أهل اليمن.

[2]  Kramer, Samuel Noah, Sumerian Mythology: A Study of Spiritual and Literary Achievement in the Third Millennium B.C., University of Pennsylvania Press, 2014.

(Visited 1 times, 1 visits today)

Last modified: 25 مايو، 2023

اشترك للحصول على نصائحنا الأسبوعية ، ومهاراتنا ، ومعداتنا ، ونشراتنا الإخبارية الشيقة.
Close