في *أل بقلم

أديان التاريخ وتاريخ الأديان (3)

4:0:1  في المكتبات الورقية والرقميّة ملايين الكتب والمراجع التي يمكن أن تجيب عن مئات الأسئلة، وفي أقبية مئات المتاحف والجامعات ودور البحث ملايين الصلصاليات والألواح الكتابية والنقوش واللقى التي انتقل قسم مهم من نصوصها القديمة إلى المراجع الورقية والرقميّة، ولا يزال التدقيق مستمراً لاستخراج النصوص التي لم تتحقق لها المعالجة المناسبة بعد. وفي معظم دول العالم ألوف المواقع الأثرية التي باح بعضها، بعد أكثر من مئتي سنة من التنقيب والتحليل والتزمين الكربوني، بالكثير من الأسرار التي اتصلت بخلق الأرض وتطور الانسان والتمدّن والحضارات، فيما استطاع عدد من علماء الفلك في عشرات المراصد الكونيّة بناء النظريات التي حاولت كشف أصل الكون والضوء والوقت.

ويستمر الجهد البحثي والتحليلي في المصادر المتقدمة جميعاً، فيما يتسع نطاق توظيف التقنيات المتطوّرة في التحليل المخبري والتزمين الكربوني والتصوير بالأقمار الاصطناعية للتوصل إلى نتائج أكثر دقة في فترات زمنية أقصر. ويترافق هذا جميعاً مع انحسار واضح في الأدلجة العرقيّة والثقافية والدينية التي هيمنت على قطاع مهم من البحوث والدراسات الأوروبية الحرجة بين الربع الأخير من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

ويبدو ان نصيباً متزيداً من الحيادية الفكرية والاستقلالية البحثية يمكن أن يحكم اشتغال جماعات من العلماء والخبراء والباحثين بعدما خرج كثيرون من هيكل الفكر الاستشراقي الذي حكم مأرخة العالم، فيما أثبت الكثير من فرق البحوث والمسوحات الأثرية الاسكندنافية قدرته على المساهمة في بحوث أصليّة لم تكن مشاركتها فيها أساسية في الماضي، فقدمت بعض الاجابات عن أسئلة قديمة اتصلت بالحياة والموت واختلاف مفاهيمها من عصر إلى عصر ومن موطن قديم إلى آخر.

بعض البحوث الأحدث بيّن أن الأقدم حتى من أول المفاهيم الطقوسية للانسان الحديث، طقوس معينة يُعتقد أن شبيه الانسان نياندرتال، وغيره من أجداد الانسان الحديث، مارسها في حالات الموت والدفن، وفي مرحلة تاريخية سبقت العصر السائر بأكثر من 220 ألف سنة. بعض العلماء يعتقد أن نياندرتال في مواطنه في فرنسا، وغيرها، كان يأكل موتاه قبل نحو 100 ألف سنة، فيما يُعتقد أن الانسان الحديث أحرق جثة أحد موتاه ثم دفنها في منطقة في استراليا قبل نحو أربعين ألف سنة.

مراسم الدفن جزء أساسي، كما يبدو، من المعتقدات الدينية، ولجملة الاشتغال العلمي في هذا المجال أهمية كبرى لأن الأديان جزء أساسي من تاريخ الشعوب والحضارة. ولهذه البحوث مكانها المناسب في هذه الدراسة التي سعت إلى استشارة أحدث ما اتفق عليه أهل العلم والخبرة من دراسات أصليّة ونتائج المسوحات الأثرية والنصوص المُترجمة من السومرية والآكادية والمصرية القديمة وصلصاليات أور وأورك وإبلة وأوغريت وماري، وغيرها، والاستعانة بآخر ما نشره المؤلّفون المتخصصون من دراسات أصل الانسان الحديث والأديان.

وتشترك هذه الدراسة مع دراسات كثيرة أسبق في اللجوء إلى هذه المصادر، وغيرها، إلا أنها تختلف عن سائر ما سبقها من بحوث أصليّة في اعتمادها على علم جديد في لغات العاربة، والعربية، هو التأصيل اللغوي التحليلي[1] الذي أثبت فاعليته في تأكيد بعض أهم الاستنتاجات في تاريخ الأديان، وفي إبطال استنتاجات أخرى كانت تُعتبر حرجة. وللتأصيل اللغوي التحليلي استخدامات كثيرة إلا أن فاعليته القصوى تتبدّى في استخدامه أداة أساسية من أدوات البحث العلمي الذي يعتمد على تحليل نصوص النقوش القديمة والتزمين الكربوني من دون إغفال النصوص الدينية الأهم التي أخضع بعضها لمقاييس التأصيل اللغوي الانتظامي.

فريق الصحراء→منطقة اليمامة→قبور فرزان

ولتأصيل الكلام نطاق اشتغال واسع النطاق يتضمن المُترجم من النصوص المخلدة، وتحليل الكلام القديم وفق الأسس والمقاييس والاعتبارات العلمية المعروفة في علوم اللغات، وأبحاث تأصيل الكلام ورده إلى مكوّناته الأصليّة لكشف مبانيه القديمة في بيئاته الأولى، وتحديد المصادر الطبيعية التي اعتمدها الناطقون الأوائل لجمع حروف الكلام والنوى اللغوية التي يمكن اعتبارها القاعدة التي ارتفع فوقها هرم كلام أهل الزمان الأول، ومن ثم العاربة والعربية، والكثير من لغات أمم العالم القديم التي نطقت بأخوات لسان العاربة.

ويمكن القول إن تأصيل الكلام أثبت قدرته على تفكيك الكتل الكلامية القديمة وإعادة بنائها على أصولها الصحيحة، وربما أضيف أن التأصيل في يد الباحث المتمكّن حاسم في بحوث كشف أصول الأديان لاعتمادها جميعاً على الكلمة لنقل نصوصها ومفاهيمها. وبما أن لكل مباني الكلام عصورها المختلفة، فإن تحديد مباني الكلام يمكن أن يساهم في تحديد عصره، كما يمكن أن يكشف مصدره اللغوي، أو أن يكشف مصادر المفاهيم الأقدم.

هذه، باختصار، بعض الأدوات التي ستساهم في استمرار كشف حقائق قصة المعارف الانسانية، إلا أنها ليست الوحيدة ذلك أن للمعارف الانسانية نفسها قصة مختلفة تعتمد مصدرين أساسيين: الأول بعض النصوص الدينية، والثاني تآليف المنقول ومجلدات الأساطير والخرافات والأنساب وبعض كتب التراث وما بقي في الذاكرة فتناقله الناس عمن سبقهم في الدنيا، إضافة إلى عدد من المصادر الأخرى التي اعتبرها ابن خلدون من حطام المفسرين وأساطير القصص وكتب بدء الخليقة لا يُعول على شئ منه، وان وجد لمشاهير العلماء تأليف مثل كتاب الياقوتية للطبري والبدء للكسائي فإنما نحوا فيها منحى القصاص وجروا على أساليبهم ولم يلتزموا فيها الصحة ولا ضمنوا للناس الوثوق بها فلا ينبغي التعويل عليها وتترك وشأنها. ‏[2]

[1] Analytical Etymology

[2]  تاريخ ابن خلدون، ج2، ق1، ص 18.‏

يتبع … أديان التاريخ وتاريخ الأديان (4)

فريق الصحراء – منطقة اليمامة – قبور فرزان

 

(Visited 18 times, 1 visits today)

Last modified: 31 ديسمبر، 2022

اشترك للحصول على نصائحنا الأسبوعية ، ومهاراتنا ، ومعداتنا ، ونشراتنا الإخبارية الشيقة.
Close