5:0:1 إذ قيل إن تأصيل الكلام أداة لغويّة تنفرد بها هذه الدراسة عن سائر الدراسات التي سبقتها في المطلق، يُقال إن مجال اشتغاله الأساسي تفكيك الكلام إلى أصوله اللغوية الأولى وإعادة إعماره وفق مبانيه اللغوية الأصليّة تمهيداً لمقارنة معانيه ولفظه بمعاني الكلام السائر في النصوص والمحكيّات ولفظه. ويرتبط تعريف تأصيل الكلام بتعريف اللغة أولاً، وبما يتضمن تحديد الأسباب التي دفعت الانسان الأول بادئ ذي بدء إلى ابتكار الكلام. أهم الأسباب الحاجة إلى التواصل لأن الانسان حيوان اجتماعي بالفطرة، مما اقتضى ابتكار الوسائل المناسبة لاستمرار التواصل، لأن التواصل ضرورة من ضرورات بقاء المجتمعات القديمة مثلما هو ضروري لبقاء المجتمعات السائرة ومجتمعات ألفيّات المستقبل.
الانسان فصيلة من مئات الفصائل في عالم الحيوان، لكنّ التأثير الذي أحدثه في البيئات التي يعيش فيها يفوق تأثير أي فصيلة أخرى. يعني هذا، من جملة اعتبارات أخرى، قدرته على الخلق والابتكار والمرونة في التعامل مع الوسط الذي يعيش فيه. كما يعني تسخير عدد كبير من الفصائل الحيوانية الأخرى لخدمته وضمان استمرار نوعه، وتغيير طبيعة مناطق شاسعة في معظم أنحاء العالم لفائدته بما تضمن استخدامها للزراعة وبناء المدن والجسور وتحويل مسارات بعض الأنهر للمرة الأولى في التاريخ.
وفي الكتب والدوريات العلميّة ألوف الدراسات عن نشأة الكون والأرض والانسان، لكن يمكن حصر الموضوع بما اتفق عليه كثيرون من علماء البيئة والانسان، أي أن افريقيا موطن الانسان الحديث وأجداده وأشباهه، وبالتحديد المنطقة المعروفة اليوم باسم اثيوبيا. هذا يقود إلى أحد أهم المعالم الجغرافية في شرق افريقيا، هو وادي الانخساف الكبير[1] الذي تكوّن قبل نحو 30 مليون سنة، ويعتقد كثيرون أنه مهد نشأة الانسان الحديث.
ويظن خبراء أن صنفاً من القردة العليا بدأ قبل أكثر من ستة ملايين سنة الافتراق عن باقي الأصناف لأسباب لم يستطيعوا تحديدها، لكنهم تبيّنوا من دراسة بقاياه نشوء شجرة لهذا الصنف تفرّعت منها نحو 20 أسرة استمر بعضها في التطوّر فيما انقرض بعضها الآخر. وكان بعض من استمر أكثر نجاحاً من الآخرين في البقاء والاستمرار، وساعده على ذلك تلاحم نسيجه الاجتماعي وابتكار بعض الأدوات التي استخدمها للصيد ونبش الأرض بحثاً عن الجذور الصالحة للأكل. من هؤلاء جنس عاش قبل نحو مليوني سنة معروف باسم القائم Homo erectus قسّمه بعض الخبراء إلى أسر فرعية منها صاحب جمجمة اكتشفت في جورجيا قُدّر عمرها بنحو مليون و770 ألف سنة، وقُدّر حجم دماغ صاحبها بنحو 600 سنتمتر مكعب، أي أقل من نحو نصف متوسط حجم دماغ الانسان الحديث.
ويبدو من نتائج التزمين أن صنف «القائم» (الذي يمشي على ساقيه) اكتسب الخبرات التي مكّنته من الاستمرار والانتشار في الأرض أكثر من مليون سنة، قبل ظهور صنف جديد من أشباه الانسان (نياندرتال Neanderthal) كان هاجر من افريقيا إلى أوروبا والشرق الأوسط قبل نحو نصف مليون سنة. واستمر هذا الجنس إلى عهد نسبي قريب، كما تؤكد ذلك نتائج تزمين بقايا تخصّه في أحد كهوف جبل طارق تعود إلى نحو 25 ألف سنة.
وقبل نحو 200 ألف سنة ظهر جنس معروف باسم الانسان المُفكّر أو العاقل Homo sapien بالتزامن مع بدء موجات متلاحقة من الجفاف المستديم الذي حوّل معظم مناطق افريقيا إلى ما يشبه الصحارى، كنتيجة مباشرة لامتداد طبقات الجليد، مما حبس كميات هائلة من الماء كان قسم كبير منها سيتحوّل إلى مطر لإنعاش الأرض وتغذية المصادر المائية بما في ذلك أنهار افريقيا وبحيراتها.
ويعتبر علماء البيئة العصر الجليدي ذاك من أطول العصور التي أمكن التعرّف عليها،. وكان وضعُ التجمّد لا يزال مستمراً قبل نحو 140 ألف سنة، فصعبت الحياة في معظم مناطق افريقيا الاستوائية، وطَلب من بقي من الخلق أعالي الجبال وسواحل البحار بحثاً عن الماء والطعام. واقتضى استمرار النوع التعامل مع هذه البيئات الجديدة، فاكتسب البعض مهارات أفضل للصيد واستغلال ثروات البحار، مثل السمك والمحار، التي وجد علماء الآثار أعداداً هائلة من بقاياها على بعض سواحل افريقيا الشرقية.
وكان حال من استوطن ضفاف نهر «أومو» في اثيوبيا أفضل من حال غيرهم، فهذا هو المكان الذي عثر فيه علماء الانسان على أقدم بقايا الانسان الحديث قدّر عمرها بنحو 195 ألف سنة. واعتبر البعض هذه المنطقة «مهد البشرية»، ومنهم من يعتقد أن تحليل البصمة الوراثية كشف وجود أم واحدة عاشت قبل 200 ألف سنة. ومن هذا المهد القديم، أو ربما الرحم القديم، دفعت أسباب مجهولة قسماً من المقيمين إلى الهجرة، ومن هؤلاء جماعة صغيرة، اكتشف الخبراء بقاياها في فلسطين، قدّروا عمرها بنحو 100 ألف سنة، واعتبروها أقدم آثار الانسان خارج افريقيا أمكن اكتشافها حتى الآن. ويبدو أن هذه الجماعة سلكت الطريق الساحلية من افريقيا إلى فلسطين عبر سيناء. لكن التحليل الكروموزومي أثبت أن الجماعة اصطدمت بطريق مسدود لم يمكّنها من الانتشار شمالاً، فلم يكن أفرادها أجداد البشر في الشام وأوروبا. كما يبدو أن تجدّد الجفاف أحد أسباب هجرتها، إذ يعتقد خبراء أن مناطق شاسعة من الصحراء الكبرى بدأت في العودة إلى حالتها الصحراوية الأسبق، ولم تعد الأرض قادرة على إطعام أهلها.
وسد التصحّر طريق الأفارقة إلى فلسطين، فلم يبق أمامهم سوى عبور البحر الأحمر. ولم يكن هذا الطريق ممكناً لولا استمرار الجاف الذي أدى إلى انخفاض مستوى الماء في بحار العالم، ومنه البحر الأحمر، فتقلّصت المسافة التي كانت تفصل بين ساحل افريقيا الشرقي وسواحل جزيرة العرب الغربية، قرب باب المندب، من نحو 30 كيلومتراً إلى نحو 11 كيلومتراً. ويرى خبراء أن انتقال جماعات من الداخل إلى السواحل طلباً للماء والطعام أكسب البعض المهارات الضرورية لعبور البحر الأحمر إلى جزيرة العرب.
ويُقال إن الانسان الحديث لم يكن الوحيد من بين الأنواع المنتصبة آنذاك، إذ يعتقد البعض أنه كان واحداً من أربعة أنواع مثيلة مشت على الأرض قبل فترة قصيرة نسبياً لا تزيد على 50 ألف سنة، لم يبق منها إلا الإنسان الحديث، فيما انقطعت آثار نوع نياندرتال من العالم لأسباب غير معروفة تماماً واتهم بعض المفكرين الانسان الحديث بالتسبب بانقراضه.
وتطرح هذه المعلومات والتصوّرات عدداً من الأسئلة لم يتوصل الخبراء إلى إجابات مقنعة عنها، لعل أهمها أسباب تمكّن مجموعة صغيرة من البشر، يقدّرُ البعض عددها بنحو 600 فرد مُكثر، من الانفراد بالأرض، فيما اختفت الأنواع الأخرى، مثل نياندرتال الذين كانوا من الصيادين المهرة واستوطنوا الأرض ضعفي زمن استيطان الانسان الحديث.
ويُعتقد عموماً أن دماغ نياندرتال لم يكن أقل حجماً من دماغ الانسان الحديث، وإن كانوا أقصر منهم طولاً بقليل. ونياندرتال قريب الانسان الحديث، لكن جيناتهم ليست في الانسان الحديث التي تتماثل في صورة ملفتة وبنسبة تصل إلى 99,9%. ويبدو من بعض الأبحاث، التي ركّزت على القدرات اللغوية، أن نياندرتال ملكوا قدرة على الكلام تماثل قدرة الانسان الحديث، وفيهم، كما في الانسان الحديث، جين كلامي اسمه «فوكس ب 2» (FOXP2) موجود في كروموزوم الانسان 7، ويسبب تشوّهه الخلقي تعسر النطق واختلال الحركات الضرورية للنطق السليم.
ويمكن الافتراض أن نياندرتال نطقوا بلغة، أو لغات ما، لأن معظم الكائنات الاجتماعية ينطق بلغة أو أخرى، فهي من أهم وسائل التواصل. لكن البرهنة على تطوير نياندرتال لغة، أو أكثر، تقتضي شرطين لا يتوافران في حالتهم: الأولى الكلام المخلد بالنقش، والثاني أن نياندرتال انقرضوا ولا يُعرف نطقهم. إذا افتُرض أن نياندرتال نطقوا بلغة ما، يمكن الافتراض أن الانسان الحديث نطق هو الآخر بلغة، أو لغات ما، في زمن، أو أزمان سابقة ما.
المشكلة ههنا هي أن تأصيل الكلام يستطيع ربط عربية العصر السائر بالعربية الملازمة والعربية الملازمة بعربية الجاهلية، وعربية الجاهلية بالعاربة والعاربة بلسان أهل الزمان الأول في عصر الحجر. ولا خلاف بين الباحثين اللغويين على أن الآكادية والمصرية القديمة أقدم الكلام الحي الذي يمكن تتبع مساره الزمني. والدليل المعروف يكمن في ألوف النصوص المخلدة في بلاد الرافدين وسورية ومصر، وغيرها، أضافت إليه بحوث المجلد الثاني من كتاب الأصول دليلاً آخر هو تأصيل كلام العاربة والعربية في النوى والمقاطع الأحادية التي ابتكرها أهل الزمان الأول وطوّرتها أقوام العاربة في الألفيّات اللاحقة.
أما ما لا تتوافر الأدلة القاطعة على إثباته فهو متى بدأ أهل الزمان الأول بتطوير الكلام، وأين ولماذا؟
ولا يوجد اتفاق بين الخبراء في شأن «اللغة الأولى» لأسباب منها عدم الاتفاق على تعريف مفهوم اللغة، لأنها ابتكار إنساني ينقلها الجيل إلى الجيل بعده، ولا سبيل إلى حفظ لفظاتها وأصوات لفظاتها إلا بالتخليد أو بالتناقل القابل للاثبات. رغم ذلك، يعتقد بعض خبراء الكلام أن اللغات التي تتضمن الأصوات «الخشنة» أقدم اللغات، ومنها لغة كليك click التي ينطق بها بعض قبائل صحراء كالاهاري في ناميبيا.
ويعتقد خبراء أن الانسان الحديث نطق بكلام ما منذ نحو 150 ألف سنة، وتطورت لغات قديمة في الأماكن التي عاش فيها أو انتقل إليها في مراحل لاحقة. وهناك مزاعم عن وجود لغات يزيد عمرها على 60 ألف سنة، لكن لا توجد سبل للتأكّد من الحقيقة لانعدام التخليد. ويبدي خبراء آخرون بعض الحذر، فيقترحون أن الانسان لم يطوّر لغات تمكّن مستخدمها من توليد جمل بلا نهاية إلا منذ 50 ألف سنة تقريباً، فهذا رأي آخر تصعب البرهنة عليه بسبب غياب التخليد.
وكان علماء اقترحوا أن هجرة الانسان الحديث عبر البحر الأحمر إلى جزيرة العرب كانت على مرحلتين: الأولى قبل نحو 80 ألف سنة، والثانية قبل 50 – 40 ألف سنة. الهجرة الأولى مثبتة، كما يبدو، من اكتشاف نصال حجرية في الهند مدفونة تحت نحو مترين من رماد بركان انفجر في اندونيسيا قبل نحو 74 ألف عام. وتوجد أدلة كافية على وجود مثل هذه النصال الحجرية بأعداد ملفتة في مناطق كثيرة من سواحل جنوب جزيرة العرب وشرقها. إلا أن العلماء يقولون الآن إنَّ الحفريات لم تكشف حتى الآن أي وجود للانسان الحديث في أي مكان في العالم قبل 60-40 ألف سنة، ومنهم من وسّط الرقمين فاقترح أن وجود الانسان الحديث خارج افريقيا بدأ قبل نحو 50 ألف سنة.
وأدى تطوّر أساليب تأصيل البشر بالبصمة الوراثية إلى توفير داعم مهم للتزمين الفحمي (الكربوني) ونتائج التنقيب عن الآثار. ويقرأ بعض الباحثين في الأساليب الثلاثة تفاصيل تاريخية لم يتفق عليها الباحثون في السابق، منها أن استيطان جزيرة العرب في المرة الأولى بدأ بوصول عدد من الأسر الصغيرة تتألف من خمسة أفراد إلى عشرين فرداً بمجموع ربما كان 250 فرداً في حده الأدنى، ونحو 600 في حده الأقصى. من هذه الأعداد الصغيرة نمت مجتمعات أهل الزمان الأول، وصارت في الألفيّات اللاحقة القبائل العريقة المعروفة في جزيرة العرب. ومن الجزيرة انتشر الخلق شمالاً إلى الشام وشرقاً إلى العراق وفارس طوعاً أو كرها، فهم أجداد قسم كبير من أكثر من 100 بليون إنسان استوطنوا معظم بقاع العالم خارج افريقيا منذ نحو 50 ألف سنة إلا أن هذه تقديرات يمكن لأي اكتشاف أثري تغييره بشكل جذري.
[1] The Great Rift Valley.
يتبع … أديان التاريخ وتاريخ الأديان (5)
Last modified: 31 ديسمبر، 2022