في بعض الكتب ومواقع الانترنت لغط في شأن أصل مدينة الناصرة، فذهب البعض إلى الزعم أن المدينة “اختراع” العهد الجديد (هنا مثلاً)، أي الانجيل، فيما قال البعض أن أصولها غامضة لأنه لا ذكر لها في العهد القديم، أي الكتب اليهودية، لكن اللغط الأكبر يكمن في تخمين البعض أن الناصرة تنتسب في اسمها إلى النصرانية فيما الصواب القول إن النصرانية تنتسب في اسمها إلى الناصرة.
عادل بشتاوي ابن الناصرة وهو مؤلف كتاب أصل الكلام: لسانا العاربة والعربية وأصولهما الجنينية في عصر الحجر إصدار دار أوثر هاوس الاميركية يكشف فيه أصول العربية وارتباطها بالآكادية والكنعانية واليمنية القديمة، فهنا نتائج بحثه المحدود في أصل اسم مدينته ضمّنه بعض الفقرات من كتاب جديد سيصدر قريباً.
الناصرة: اسم ألفي مخلد في الآكادية أصله يمني
«النَّواصِر» في بعض الاعتبارات اللغوية مجاري الماء إِلى الأودية واحدها ناصِر وهي تؤنث في ناصِرة فاسمها ناصِرة لأنها تجيء من مكان بعيد حتى تقع في مُجْتمع الماء حيث انتهت. وبما أنها تروي ما تصب فيه فهي تأتي إليه، ومن هذا المفهوم اللغوي سُحبت معاني نصر وانتصر وناصر.
ويقال: نَصر الغيثُ الأَرض نَصْراً: غاثَها وسقاها وأنبتها، ونَصَر الغيث البلَد إِذا أعانه على الخِصْب والنبات، والنُّصْرة في اعتبار ابن الأعرابي المطرة التامة، وأرض مَنْصُورة مُغاثة بالماء، والسحب في القول: «نصر القوم» أي أغاثهم.
وقال الناس رجل نَصْراني وامرأَة نَصْرانيَّة بياءي النسب والجمع نصارى ونصرانيون، فيما زعم الخليل (أو الليث) في كتاب العين أن النصارى نُسِبُوا إِلى قرية بالشام اسمها «نَصْرُونة»، وزعم الجوهري أن «نَصْرانُ» قرية بالشام ينسب إِليها النَّصارى، ويُقال «ناصِرَةُ». والتَّنَصُّرُ الدخول في النَّصْرانية، وفي المحكَم «الدخول في دين النصْري»، وفي الحديث «كلُّ مولود يولد على الفِطْرة حتى يكونَ أَبواه اللذان يَهَوِّدانِه ويُنَصِّرانِه».
ونقل ابن منظور عن جماعته في لسان العرب: «الأَنْصَرُ: الأَقْلَفُ وهو من ذلك لأَن النصارى قُلْف (أي لم يُجزّ ما بين سيقانهم مثل اليهود والمسلمين) وفي الحديث «لا يَؤمَّنَّكُم أَنْصَرُ»، أَي أَقْلَفُ، كذا فُسِّروه المفسرون، وهم يصيبون في حالات ويخطئون في حالات، فلا يؤخذ كلامهم إلا بعد تمحيص لأن كلام القرآن ينفرد بالقدسيّة، وليس في كلام أهل التفسير والحديث غير ما نقلوه عن القرآن أي قدسيّة من أي نوع، وكلامهم يخضع للمساءلة مثله مثل أي كلام آخر.
وما تقدم اجتهاد أهل التفاسير والمعاجم في تحديد أصل اسم «الناصرة» اعتماداً على القياسي الثلاثي (أي أصول الكلام المؤلّفة من ثلاثة حروف صحيحة). إلا أن ما لا يعرفه أهل التفاسير والمعاجم هو أن أصول كلام العربية ليست الثلاثي بل الثنائي أو النوى اللغوية.
وبما أن تأصيل الكلام هو التاريخ، فتأصيل أسماء الناس والأماكن في الأصول الثنائي (المؤلّفة من حرفين صحيحين) يكشف أصول الأسماء، لذا فإن «نصر» نسيلة الأصل الثنائي «نص»، ومنه التنصيص (التنصيف)، ونصب الأشياء (نصب الخيمة وغيرها) وانتصابها، والنصيّة، أي ما ارتفع في البيوت فوق الطبقة الأولى، فالمعنى العام لهذا الأصل الثنائي هو ما ارتفع من الأشياء المصنوعة أو الطبيعية. وهذا يعني أن أصل اسم «الناصرة» لا يعني أكثر من أنها بُنيت في مكان مرتفع. وبما أن الناصر ة مرتفعة، فمن الطبيعي أن يسقط عليها وعلى تلالها المحيطة المطر فيسيل منها إلى الوديان، فهذا أصل المعنى الذي تقدم في هذا النص.
والشائع في الكلام «ناصرة ونصراني ونصرانية (مؤنث) ونصارى ونصرانية (أي المسيحية)»، فهذه وغيرها جميعاً أسماء ومفاهيم لاحقة لا تُنسب إلى المعنى الأصلي الذي استخرجه الناس على الأرجح في المرحلة التي سبقت التأريخ، وإنما إلى المسيح النصراني، وإلى الدين الذي أخرجه فكان، إلى حد ما، «حركة تصحيحية دينية» لليهودية بعدما لجأ الكهنة الملوك المكابيون إلى تغيير بعض نصوص في المئويات القليلة التي سبقت الميلاد.
ويكشف الكلام ارتباط المسيحية الأولى باليهودية لأنه يُقال في العربية «كنيس» وصف بيوت الله اليهودية، ويُقال «كنيسة» لوصف بيوت الله المسيحية فاللفظة واحدة لكنها مذكرة في الأولى ومؤنثة في الثانية، مما يعطي الانطباع أن الكنائس الأولى كانت كنساً يهودية، ويدعم هذا الانطباع أن المسيحية لم تنتشر جيداً إلا في القرن الميلادي الرابع.
ولا يقول الناس عن المسيح «ابن لحمي» أو «اللحماني»، نسبة إلى بيت لحم التي يُقال إنها كانت مسقط رأسه، لذا مُلفت أن تنتسب النصرانية إلى الناصرة، لكن قول بعض الباحثين أن المسيح ولد في الناصرة لا في بيت لحم يتطلّب بعض التدبير.
وقيل في شرح العهد الجديد الآية (46): (فقال له نثنائيل أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح، قال له فيلبس تعال وانظر): «هم كيهود كانوا يتصورون أن المسيح يكون عظيمًا ويخرج من مدينة عظيمة (يو52:7) (أو بحسب النبوات يخرج من بيت لحم). وكان اليهود حتى الجليليين يحتقرون سكان الناصرة ربما لأنها صغيرة وربما لاختلاط أهلها بالوثنيين وتجارتهم معهم. فهل يخرج المسيح من مدينة صغيرة كالناصرة؟! وكان رد فيلبس العملي تعال وأنظر، ليختبر المسيح كما اختبره فيلبس وآمن به» (شرح القس انطونيوس فكري كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت الحبشي القس – الإسكندرية -مصر).
وهذا اجتهاد يصعب التحقق منه ويفضُله الاقتراح أن الناصرة كانت من مدن العاربة (أي من مدن اليمنيين القدماء) لذا لم يكن لليهود فيها وجود، فهذا يفسر سبب عدم وجود اسم الناصرة في الكتب اليهودية لأنها كانت خارج امتداد أقامتهم المحدودة أصلاً في بعض مناطق فلسطين. أما الاقتراح الآخر أن بيت لحم مسقط رأس المسيح فلا يوجد دعم تخليدي يمكن البرهنة عليه بالتزمين الكربوني. ما يمكن التحقق منه بتأصيل الكلام هو أن اختيار بيت لحم لا الناصرة ربما كان لأن بيت لحم في الأصل مدينة «دينية»، وربما كنت من مدن الكنعانيين. ذلك أن «لحم» لا تعني لحم الضأن وغيره، ولا تعني الخبز، كما زُعم. كما أن «بيت» في «بيت لحم» لا تعني بيوت الناس وإنما «بيوت الله»، وهذا يسري على مدن فلسطينية كثيرة (بيت جالا، بيت حانون، بيت المقدس، الخ).
و«لحم» في اسم مدينة «بيت لحم» من مفاهيم الميثولوجيا السومرية التي سبقت اليهودية والمسيحية بمئات السنين وفيها أنّ «أن ناكي» آلهة وإلاهات أخوة وأخوات كانوا في الأصل أبناء أنشار وكيشار، وكان هؤلاء قبل ذلك أولاد لحام ولحمLahamu, Lahmu أو «ذوو الطين».[1] لذا يمكن القول إن هذه المفاهيم انتقلت إلى فلسطين عن طريق الآكاديين (الآشوريين والبابليين) أو عن طريق الكنعانيين مباشرة. وسبب ذلك أن أهل قبيلتين تنتميان إلى أد (أي الأموريين والطائيين) انتقلوا إلى بلاد الشام من الحجاز في منتصف الألفيّة الثالثة قبل الميلاد ومعهم جماعات من الكنعانيين الذين كانوا يسكنون مكة ونجد. والكنعانيون هم الفينيقيون وهم السومريون الذين عمّروا مدناً مشهورة في جنوب العراق، مثل أور وأورك، وهم أهل الأديان القديمة بامتياز.
ويبدو لتأصيل الكلام أن اسم الناصرة أقدم حتى من وصول الكنعانيين والأموريين قبل نحو 4500 سنة لأن اللفظة من كلام اليمن وهي تنتمي إلى فصيلة لغوية يمكن اعتبارها من وحدات الحضارة والصناعة ✤صن⇆نص، فمنها صنع، وصنعاء المدينة المعروفة، التي يبدو أنها اشتهرت بالصناعات في زمن قديم. أما انتساب النصرانية إلى الناصرة فلأنّ مريم، أم المسيح في الكتب، من بناتها، وفي المدينة إلى اليوم عين يُقال إن مريم كانت تستقي منه، والمدينة تعتبر عاصمة العرب في شمال فلسطين ومعظم سكانها عرب نصارى ومسلمون.
ويعني ما تقدم أن اسم الناصرة لم ينتسب إلى النصرانية والنصارى بل النصرانية والنصارى انتسبوا إلى الناصرة لأن اسمها من الأصول الثنائية التي أخرجها الناس في عصر الحجر . أما أهل اللغة الأجانب فلهم في أصل الناصرة نظريات، لكنها ما ذُكر هنا، ولها ثبت أكيد في الآكادية نصر naṣāru بمعاني «حمى، حرس، دافع، نطر، حذّر من الشيء، صان، اقتصد، حرص، أطاع، تأهّب، أقام حراسة، كان في وضع تأهب واحتراز، أن يُحمى». ومن كلام فعيل نصير nāṣiru، ولها معظم ما تقدم من المعاني إضافة إلى: «رحيم، حنون، حارس، حامي، معلم، حافظ الشيء والعهد، حارس». والآكادية أقدم اللغات المخلدة تخليداّ أكيداً في العالم في مئات الألوف من الصلصاليات التي أخرجهاالمنقبون من مدن العراق القديمة منذ منتصف القرن التاسع عشر.
وفي القرآن لفظتا «المسيح» و«عيسى» لكن عيسى في القرآن ليس المسيح، ولعل أصل اسم عيسى «أوس» (أوس ← عوس ← عيس ← عيسى)، فهذا من أسماء الأموريين والتميميين، مع اللفت إلى شيوع بدل الألف من العين والعين من الألف، كما في عبد وأبد، وسمأل وسمعل، أو اسماعيل.
اسم عيسى طبيعي، لكن اسم «المسيح» لفظة دينية بامتياز. هو ليس اسماً بل صفة لشخص ممسوح مسحاً سماوياً أو إلهيّاّ، أو ممسوح بمن عنده سلطة المسح بالنيابة والإذن والتكليف ووراثة المسح، لذا يستبعد تأصيل الكلام أن يكون اسمه يوم ولد. وكلمة “مسح” مشتقة من الأصل الثنائي “مس” لكن السين مبدلة من الشين، أي أن أصله “مش” كما يتضح في المحكيّة “كمش” علماً أن المحكيّات أقدم من الفصحى والفصيحة بألوف السنين وربما أخرج الانسان أول لفظاتها قبل 40 وربما 50 ألف سنة. وفي انجيل يوحنا أن موسى كتب عن «المسيح» في الناموس لكن اليهود ينفون أن يكون «ليسوع ابن يوسف الذي من الناصرة».[2]
ولفظة «قرآن» آكادية (أصلها قرو ولها صيغ آكادية عدة منها qarû, qarrātu, qerītu, qirītu, qurrû). أما لفظة «توراة» فعربية قديمة مشتقة من الأصل الثنائي «رأ» ولها شيوع في المحكيات الفلسطينية والشامية والمصرية (ورّيك، ورجيك، ورّيه)، فيما «انجيل» سومرية من مبنى الثنائي المتوالف «أن چل»، بجيم مثلثة. و«مريم» اسم عربي قديم وهو ميمي (ميم مضافة أول الاسم) أصله الثنائي «رأ» وله نسيلة مشهورة «رأم»، لذا «مريم» اسم عربي قديم أصل يائه همزة تقلب إلى ألف في اسم «مرام»، فهذا أيضاً من الأسماء الألفيّة لكن أصله ليس من كلام اليمن بل من كلام قوم أد ومنهم الأموريون، فلعل اسم مريم/مرام أموري الأصلي كان من أسماء بنات قبيلة مر بن أد مؤسس الامبراطورية البابلية على يد زعيم أحد بطون قبيلته هو أمورأبي المعروف أيضاً باسم محرف هو حمورابي. لكن في الحالتين مريم ومرام اسم واحد قُلبت همزته إلى ياء في حالة وألف في حالة.
[1] اللحم معروف جداً لكن أصله اللغوي غامض جداً، فالمكان المعروف «بيت لحم» يبدو «بيت لحام» المذكور ههنا. وهذه مشكلة فلتُنظر ترجمة لحم في لسان العرب: «قال الأصمعي: في قول الراجز يصف الخيل: نُطعمُها اللحم إذا عزّ الشّجر؛ والخيلُ في إطعامها اللحم ضرر، قال أراد نُطعمها اللبن فسمى اللبن لحماً لأنها تسمنُ على اللبن. وقال ابن الأعرابي: كانوا إذا أجدبوا وقلّ اللبنُ يبّسُوا اللحم وحملوه في أسفارهم وأطعموه الخيل، وأنكر ما قال الأصمعي. أما قوله: إن الله يُبغضُ البيت اللحم وأهله، فإنه أراد الذي تؤكل فيه لُحومُ الناس أخذاً، وفي حديث آخر: يُبغضُ أهل البيت اللحمين. وسأل رجل سفيان الثوريّ: أرأيت هذا الحديث إن الله تبارك وتعالى ليُبغضُ أهل البيت اللحمين؟ أهُم الذين يُكثرون أكل اللحم؟ فقال سفيان: هم الذين يكثرون أكل لحوم الناس؟ أما قوله: ليُبغضُ البيت اللحم وأهله، قيل هم الذين يأكلون لحوم الناس»؟ هذا دخول للفهم وخروج، فيبدو أن المقصود بـ«بيت لحم» لحام وأخوها. وقيل في ترجمة حم (حمم): «قوله تعالى حم الأزهري قال بعضهم معناه قضى ما هو كائن». وقيل في الترجمة أيضاً: «الحميمُ القريب»، ومنها «الحميمية»، و«الحميمُ القريب الذي تودُّه ويودُّك والحامّةُ خاصةُ الرجل من أهله وولده وذي قرابته، يقال هؤلاء حامّتُه أي أقرباؤه، وفي الحديث اللهمّ هؤلاء أهلُ بيتي وحامّتي»، فيبدو أنها مثل العلاقة بين لحام ولحم. وقيل في هذه الترجمة «الحميم وهو الماء الحارُّ» ثم قيل «الحميم الماء البارد» ثم قيل «الحميم عند ابن الأعرابي من الأضداد يكون الماء البارد ويكون الماء الحارّ». وهذه معظمه كلام، فإنما المعنى في الآتي: «حمحم الثورُ إذا نبّ وأراد السّفاد». وسبب التخبط اللغوي في بعض ما تقدم هو الخلط في معاني النواة *حم فهي اسم عرق هو الحُم ومنهم حمير، وهي حموة جسد الانسان ومنها رحم↣ التي هي سابقة ثلاثية. لذا يُقال الآن إن لحام ولحم من *حم التي تعني الرحم. وفي القرآن: «فاسْتفْتهمْ أهُمْ أشدُّ خلْقًا أم مّنْ خلقْنا إنّا خلقْنٰهُم مّن طينٍ لّازبٍ» (الأعراف 11).
[2] النصارى أو النصرانيون كان اسم المؤمنين بديانة الناصري عيسى، وللاسم ثبت في العهد الجديد 16 مرة. ومما ذكر في الانجيل عن الناصرة: «وجدنا الذي كتب عنه موسى في النّامُوس والأنبياء يسوع ابن يُوسف الذي من الناصرة» (يوحنا: 45:1).
Last modified: 31 ديسمبر، 2022