كلام كثير في كتاب العهدين موجود في عربية المحكيّات والنصوص، لكن كتب العهد الأقدم يمكن أن تكون مهمة لتأصيل الكلام إذا استطاع الباحث إقامة الصلة بينها وبين الكنعانية. الكنعانيون مهمون لأنهم أهل التخليد والتنظيم والادارة من أيام السومرين وقبلها من أيام وجودهم قرب قوم أد في عُمان اليوم. وفي الروايات اليهودية بعض التعميّة التي تمكّن بعض النابهين العرب من تحديدها في العبرية، لكن لقصص معينة في العهد الأقدم أصول واقعية يبدو لتأصيل الكلام أن مصدر بعضها نصوص كنعانية مُخلّدة ربما كانت معروفة في حرم مكة من أيام اسماعيل، وروايات قَبَلية ربما كان أصلها من جنوب جزيرة العرب ومكة والطائف.
الاشارات في القرآن إلى عيسى وأمّه مريم كثيرة لكن قصة مريم لا غموض فيها. ربما بدا اسمها من مبنى الثنائي المتوالف مر، يم، لكنه ثلاثي مزيد رأم ← مرأم ← مريم، يوجد ممدوداً إلى اليوم في اسم مرام السائر في الناصرة وغيرها، فاللفظة ابتكار قوم *أد وهي من الفصيلة اللغوية المشهورة ✤أر⇆رأ. ولمريم قوالب روائية ودينية مُبتكرة سبقتها منها عذارى فيرجيل وإيسيس وحوروس، وحور السومرية (نين حور سچ)، وفي عذريتها، التي أكدها المحفل الكنسي بعد الآخر، عذرية عناة، لكن مريم غير عناة، مثلما أن عناة غير مريم لأن المعالجة في الحالتين مختلفة. مريم التي اعتبرها البعض زانية حملت سفاحاً تخلصت من التهمة لانها جاءت بمخلّص. في القرآن سورة للنساء، لكن مريم المرأة الوحيدة التي حظيت بسورة كاملة.
بولس لم يذكر مريم في تآليفه، ومعظم ما تطوّر عن صعود مريم إلى السماء اشتغال الكهنة في القدس في القرن الخامس الميلادي. في أديان العاربة عشرات الإلاهات، وكثيرات حملن لقب «ملكة السماء» أو «ملكة السماوات»، لكن ليس في اليهودية نبيّات. لعل السبب أن اليهود ليسوا في الأصل من أبناء العاربة فثقافتهم مختلفة عن ثقافة الأم فيها كل شيء: الأمومة والإمامة والأمّة.
لمريم مئات اللوحات والتماثيل التي حاول الفنانون إظهارها بأقصى درجات المثالية الممكنة. مريم ليست أمّاً عادية لذا ليس من السهل جمع صورة عنها بالمقاربة مع وظائف الأم. المسيح مثلها، لكن بشكل مختلف. بشرته سمراء في أيقونات البيزنطيين وهو أسود عند بعض السود وأشقر في أديان فرعية مثل المرمونية الأميركية. وقيل في ترجمة نصر: نصرى وناصرة ونصُوريّة: قرية بالشام والنّصارى منسوبون إليها، قال ابن سيده: «هذا قول أهل اللغة، وهو ضعيف.» ابن سيده من أهل الأندلس لذا لا يعرف. المسيح منسوب إلى الناصرة والنصارى منسوبون إلى المسيح «الناصري». لكن المدينة نفسها أقدم من المسيح بكثير واسمها من موقعها المرتفع في جبال الجليل تكشفه نواتها *نص ومنها المنصة والنصب.
اللفظة من كلام اليمن وهي تنتمي إلى فصيلة لغوية يمكن اعتبارها من وحدات الحضارة والصناعة ✤صن⇆نص، فمنها صنع، وصنعاء المدينة المعروفة، التي يبدو أنها اشتهرت بالصناعات في زمن قديم. أما انتساب النصرانية إلى الناصرة فلأنّ مريم من بناتها، وفي المدينة إلى اليوم عين يُقال إن مريم كانت تستقي منه، والمدينة تعتبر عاصمة العرب في شمال فلسطين ومعظم سكانها عرب مسلمون ونصارى. أما أهل اللغة الأجانب فلهم في أصل الناصرة نظريات، لكنها ما ذُكر هنا، ولها ثبت في الآكادية نصر naṣāru: حمى، حرس، دافع، نطر، حذّر من الشيء، صان، اقتصد، حرص، أطاع، تأهّب، أقام حراسة، كان في وضع تأهب واحتراز، أن يُحمى. ومن كلام فعيل نصير nāṣiru، ولها معظم ما تقدم من المعاني إضافة إلى: رحيم، حنون، حارس، حامي، معلم، حافظ الشيء والعهد، حارس.
وتقدم حال اسم عيسى في القرآن ويبدو لتأصيل الكلام أنه اسم طبيعي، لكن لفظة «المسيح» لفظة دينية بامتياز. هي ليست اسماً بل صفة لشخص ممسوح مسحاً سماوياً أو إلهيّاّ، أو ممسوح بمن عنده سلطة المسح بالنيابة والإذن والتكليف ووراثة المسح، لذا يستبعد تأصيل الكلام أن يكون اسمه يوم ولد. في انجيل يوحنا أن موسى كتب عن «المسيح» في الناموس لكن اليهود ينفون أن يكون «ليسوع ابن يوسف الذي من الناصرة»[1] ذكر في كتب التوراة، وبعض الباحثين يقول إن اليهود أدرى من غيرهم بقراءة كتبهم. المشكلة، مرة أخرى، أن «يسوع»، مثل «المسيح» اسم ديني هو الآخر، ومثله شعيب (الأعراف 5)، وكلاهما من النواة شع لكن اسم شعيب أصلي (بالشين) فيما اسم يسوع مُرحل إلى السين، ربما عن طريق الآرامية.
وربما قيل إن المسيحية دين إيماني في المطلق، لذا ليست مفهومة الحاجة إلى أن يكون اسمه في التوراة أو غيرها. وإنما للناصري قصة انتهت في الأرض لها، كما يُقال، فصل آخر في السماء. هذا وضع مُعلّق يبدو أنه وراء بعض الغموض الذي يحيط بهذه الشخصية التي يمكن وصفها بـ«المتميزة»، ولاتصالها المحتمل بما حدث لإيليا.
في الملوك 2: «وكان عند اصعاد الرب ايليا في العاصفة الى السماء ان ايليا واليشع ذهبا من الجلجال» (1)؛ «وفيما هما يسيران ويتكلمان اذا مركبة من نار وخيل من نار ففصلت بينهما فصعد ايليا في العاصفة الى السماء» (11).
في انجيل متى 16: «من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يظهر لتلاميذه أنه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألم كثيرا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، ويُقتل، وفي اليوم الثالث يقوم» (21)، «حينئذ قال يسوع لتلاميذه: إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (24).
وفي القرآن آيتان في هذا النطاق: «إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون» (آل عمران 55). «وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علمٍ إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا» (النساء 157).
*وقال الطبري في تفسير الآية الأولى: «ثم اختلف أهل التفسير في معنى (مُتوفّيك)، فقال بعضهم: هي وفاة نوم، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني مُنيمك ورافعك في نومك. حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح أن كعب الأحبار قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيا ومبشرا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه:) إني متوفيك ورافعك إليّ)، وليس من رفعته عندي ميتا، وإني سأبعثك على الأعور الدجّال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ.
قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله حيث قال: كيف تهلك أمة أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها.» ونقل الطبري عن رواة آخرين بعض كلام كعب الأحبار، ثم ساق قول الحسن: «قال رسول الله لليهود: إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة.»*
إذاً، هي قصة كعب الأحبار التي لا يبدو أنها استوقفت أياً من المفسرين. كعب الأحبار في تفسيره لا يقول إن المسيح اشتكى إلى الله عداء اليهود لدينه الجديد وإنما اشتكى إلى الله من «قلة من اتبعه وكثرة من كذّبه». لكأنَّ كعب الأحبار وظّف المساحة التي اعطاها المفسرون له للتهجّم على المسيح والمسيحية، ولكأنَّ جماعة التفسير منحته المساحة ووافقته تفسيره، وهذا واضح في كلام الحسن الذي عرض حديثا نسبه إلى الرسول لكنه لم يُشر إلى مصدره.
من أين جاء كعب الأحبار بهذا الحديث الذي عرض الحسن تكملة له لم ينقله عن أحد في النص، ومن أين جاء الحسن بالحديث؟
هو سؤال يمكن أن يكرره الباحث مئات المرات، ثم يمضي فيقترح أن بعض المفسرين لم يلاحظ دافع كعب الأحبار الحقيقي. اليهود، في العموم، يعتبرون المسيح دجالاً من دجالين مثله خرجوا في أزمان سبقت. ولما صار للمسيح اتباع كثيرون انقلب موقف كهنة اليهود من الاستخفاف والتجاهل إلى الخوف. عدد اليهود اليوم يكاد لا يُمثّل شيئاً مقارنة بعدد المسيحيين. لكن بما أنهم يعتقدون أن «مسيحهم» لم يظهر بعد، وجد الكهنة اليهود أن استمرار العداء الظاهر للمسيح والمسيحية ليس في صالحهم، لأن كثيرين كانوا يسكنون مناطق سيطرت عليها الرومانية المسيحية، ولم ينفرج وضعهم إلا بعد ظهور الاسلام.*
[1] النصارى أو النصرانيون كان اسم المؤمنين بديانة الناصري عيسى، وللاسم ثبت في العهد الجديد 16 مرة. ومما ذكر في الانجيل عن الناصرة: «وجدنا الذي كتب عنه موسى في النّامُوس والأنبياء يسوع ابن يُوسف الذي من الناصرة» (يوحنا: 45:1).
Last modified: 4 يناير، 2023