العادة في رواية التاريخ العربي العام أن يبدأ المؤرخ بتلخيص ما قاله السابقون عن تاريخ أمة من الأمم فهم المصدر الرئيس في حالات، والمصدر الوحيد في حالات أخرى. والطبري صاحب أكبر كتاب في التأريخ بالعربية، وربما بالفارسية، لكنّه ليس صاحب أول كتاب في التأريخ فهذا صاحبه اليعقوبي الغامض. والأساطير والخرافات والسوالف في اشتغال اليعقوبي كتاب، وهي عند الطبري مجلدات.
وقيل الكثير عن أسلوب الطبري في الكتابة، لكن العبرة ليست في منهجية البحث بل بالبحث نفسه، مثلما أن العبرة في البضاعة البضاعة نفسها لا تغليفها، والكتاب بمحتواه لا بعدد مجلداته وصفحاته فإنما الاكثار نهج أساسي في تآليف النقلة هدفه الاغراق حتى لا يتبين القارىء الخيط الأبيض من الاسود فيستهون القبول بالأمر الكائن بدل التمعن في الأشياء قبل القبول بما يجب أن يكون.
وإنما يُظلم الطبري إن جهد البعض إلى دفعه إلى مرتبة يتربع عليها ابن خلدون بامتياز، فهو ليس من المدرسة نفسها، ولا ابن خلدون واحد من الجماعة، فمركزه محفوظ، وآراؤه يُؤخذ بها. إن كان اشتغال جماعة الكلام «حرفشة»، كما وصفها ابن خلدون، فقد ثبت لتأصيل الكلام أنه حريشة؛ إن كان تفسير القرآن في مجلدات التفسير «حطام»، فقد ثبت لتأصيل الكلام أنه حطام. الطبري عبقري لا ريب، وهو في مرتبة هيرودتس لا شك، إلا أن عبقريته لم تستطع تحويل الحطام إلى حب، ولم تستطع وقف تحوّل حب الكلام في تفاسير البعض إلى قش فعرض للناس ما هو كائن بدل عرض ما يجب أن يكون.
الطبري، إذاً، مظلوم. إذا أراد رجل القوم مثالاً لعرض السبب فالطبري كمثل مايسترو وجد نفسه في اعدادية ريفية مطلوب منه ومن جوقة طلابه عزف سيمفونية لبيتهوفن وليس عندهم إلا المزمار والطبل والدربكة. طالما بقي العزف في حدود دو ري مي انتظم التفسير لأنه كلام يعرفه جميع العرب، صغيرهم وكبيرهم، من دونما حاجة إلى مفسرين لأنهم جُبلوا على عروبيته وأنزله الله جل وعلا بلسانهم، عالمهم وبسيطهم، كبيرهم وصغيرهم.
حتى إذا صار في الكلام فا اضطربت الجوقة فطبل الزمار وزمر المدربك وفلتت من يد المايسترو العصاة. و«فا» في التفسير ليست كلمة من كلام الفيزياء الكونيّة النظرية وإنما لفظة بسيطة مثل كوّرت يعرفها كل من رأى النفّاخ ينفخ في الكير، وكل من وضع قدمه في جورب، وكل من حفر جورة أو قوّر بطيخة.
أمّا جماعة التفسير فوجدت في فهم هذه الكلمة من التعقيد ما لا عليه من مزيد، وصاروا يتكهنون فقال هذا: ذهب ضوءها. وقال آخر: أظلمت، وقال ثالث: ذهبت، وقال رابع: اضمحلت وذهبت، وقال خامس رُمي بها (كالطابة). أما الآخر فلم يكن له رأي مُقَال في معنى اللفظة المعروفة في دنيا كلام العرب فصار له رأي في دنيا الآخرة، ونفر من حقيقة التفسير إلى خيال الدجل والتفشير: «فبينما كان الناس في أسواقهم، ذهب ضوء الشمس ثم تناثرت النجوم ثم وقعت الجبال على وجه الأرض ثم احترقت، وفزِعت الجنّ إلى الإنس، والإنس إلى الجنّ، واختلطت الدوابّ والطير والوحش، وماجوا بعضهم في بعض.».
لم تقم القيامة فمن أين لواحد من الفناة أن يراها رؤية اليقظة لا رؤية المنام إلى حد القدرة على وصفها؟ من أين جاء بهذا التخريف؟ هل هو شريك الله، الذئ لا شريك له في شيء، في علمه؟ إن كان نقلها عن النقلة، فلماذا لم يعرض للناس اسماءهم، أما أنها سر بينه وبينهم أو وسيلة؟
ثم لماذا ستتناثر النجوم وتقع الجبال على الأرض إذا اختفت الشمس؟ للنجوم مدارات لا علاقة لها بالشمس، والجبال لن تقع على الأرض لأنها قاعدة عليها بجذب الجاذبيّة الأرضية، ولن تختلط الدواب والطير والوحش لأن أحداً لن ينتبه إلى غياب الشمس إلا بعد ثماني دقائق ونصف الدقيقة يكون الناس خلالها استعدوا للظلمة فجمعوا المصابيح والشموع لظلام مديد. بعدها سيصعدون إلى أسطح المنازل وفي أيديهم آخر أكواب الشاي المُعد بالكهرباء وستكون للانسان رحلة العمر والزمان التي ما بعدها رحلة. سيعرفون إذ ذاك روعة الخالق لأن الأرض ستنفلت من عقالها الشمسي وتسبح في الفضاء في الاتجاه الذي تريده كتلتها وسترى الأرض سماوات لم ترها منذ بلايين السنين.
هذا الانسان الذي يأكل ويتغوط ويبول بيته القديم الفضاء لأن أصله من تراب الفضاء، مثل الأرض التي يعيش عليها. صحيح أن قدمه في التراب، لكن رأسه في السماء، فلا يأخذن أحد كلام المفسرين بغير الاستنكار إذ قالوا في تفسير الآية «وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعبُدُونِ» (الذاريات 56): «معنى ذلك، وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليذعنوا لي بالعبودة»، ولا بغير الشك والاستنكار إن قال ابن عباس: «إلا ليقروا بالعبودة طوعا وكَرها»، ولا ابن عباس إن زاد: «خلقت الجنّ والإنس إلا لعبادتنا، والتذلل لأمرنا.»
هذا الكلام كلام إله الفراعنة رع للمتجبرين من الأعراب، فلينظر المفسر السورة، وليعرف من يُخاطب بها، فلكل قوم في القرآن خطاب، ولكل خطاب في القرآن زمان، فلا يخلطن أحد بين الأقوام والأزمان، فهذه ليست رسالة القرآن إنما تذكير بتاريخ لا يعرفه المفسرون بما عبده السابقون في الألوف البعيدة كي يعرفوا الوسط في الأشياء القرآنية واليسر.
المفسرون واللغويون، وهم في حالات جماعة واحدة، خلطوا، كالعادة، بين الأصول الثنائية في فهم ثلاثية عرضوها مطلباً في التفاسير والمعاجم. عبد العبودية البشرية من أصل معروف *بد، مشهور في “شيء لا بد منه”، أي مفروض على الأسرى والمسبيين في الحروب وغيرها. هذا الأسير المسبي أو الأسيرة المسبية “أبد” و”أبدة” لا “عبد” و”عبدة”. عبد في القرآن الكريم، وهو كتاب يعرف أصول الكلام، نسيلة أصل ثنائي مختلف “عب” له صلة بماء طاهر مخصوص، ولمتطوعين من الناس كانوا يسقون غيرهم بهذا الماء واحدهم “عبد” لكنه ليس أسيراً ولا مسبياً فهو رجل حر أسرته الخشية من الله وسبته الرغبة في خدمة غيره من الناس فربما رحمه الخالق في الحياة أو بعدها. العبادة في الكلام الأصيل القيام على خدمة الناس بعرض الماء الطاهر الذي هو عب عليهم.
الناس في الجاهلية كانوا يتسابقون على هذه الخدمة الجليلة، لهذا قيل في مطلب “عبب”: “العُبِّيَّة والعِبِّيَّةُ الكِبْرُ والفَخْرُ، حكى اللحياني: هذه عُبِّيَّةُ قُريشٍ وعِبِّيَّةُ ورجل فيه عُبِّيَّة وعِبِّيَّة، أَي كِبر وفخر، وعِبِّيَّةُ الجاهلية: نَخْوَتُها”. “العَبْعَبُ” في المطلب نفسه، “ثَوْبٌ واسِعٌ، والعَبْعَبُ كِساءٌ غليظ كثير الغَزْلِ ناعمٌ يُعْمَلُ من وَبَرِ الإِبِلِ”. هذا هو كساء الكعبة الأول في عصر يبدو أنه قريب من نهاية عصر الحجر. “. جماعة التفسير والحديث لا تعرف هذه الحقائق العظيمة لذا فإن الحديث “إِن اللّه وضَعَ عَنْكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وتَعَظُّمَها بآبائها؛ يعني الكِبْرَ “لا يستوي وربما كان من المصانيع، إن صح نسبه.
في مطلب “ابد” في لسان العرب: الأَبَدُ: الدهر. الأبد ليس الدهر وإنما البادية لأنه يُقال: أَبَدَ بالمكان يأْبِد أُبوداً أَقام به ولم يَبْرَحْه، أي أنه اتخذ من البادية موطنا، و”الأُبَّدُ: الوحش” لأنه يعيش في البادية. ثم قيل: “الإِبِد على وزن الإِبل الولود من أَمة أَو أَتان، وقولهم لن يُقْلِعَ الجَدُّ النَّكِدْ إِلا بَجَدِّ ذي الإِبِدْ في كلِّ ما عامٍ تَلِدْ، والإِبِد ههنا الأَمة لأَن كونها ولوداً حرمان وليس بحدّ أَي لا تزداد إِلا شرّاً، والإِبِدُ الجوارح من المال وهي الأَمة والفرس الأُنثى والأَتان يُنْتَجن في كل عام”. هذه هي العبودية الانسانية: الأمة عبدة تنكح وما تلده عبد فهي لا تزداد إلا شراً ولا أمل لها بالحرية ولا لنسلها.
في مطلب “عبد” في لسان العرب: “العبد الإِنسان حرّاً كان أَو رقيقاً يُذْهَبُ بذلك إِلى أَنه مربوب لباريه”. هذا مطلب ثلاثي أصله الثنائي ليس “بد” بل “عب”، الماء الطاهر. في حديث أَبي هريرة: لا يَقُل أَحدكم لمملوكه عَبْدي وأَمَتي وليقل فتايَ وفتاتي هذا على نفي الاستكبار عليهم وأَنْ يَنْسُب عبوديتهم إِليه فإِن المستحق لذلك الله تعالى هو رب العباد. وقيل: العِبادُ قَوْمٌ من قَبَائِلَ شَتَّى من بطونِ العرب اجتمعوا على النصرانية فأَِنِفُوا أَن يَتَسَمَّوْا بالعَبِيدِ وقالوا نحن العِبادُ والنَّسَبُ إِليه عِبادِيّ كأَنصاِريٍّ نزلوا بالحِيرَة وقيل هم العَباد بالفتح.
لغير المتجبرين المنكرين الذين أحبّوا الله ورسوله خطاب غير هذا: «قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِى يُحبِبكُمُ الله وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَالله غَفُور رَّحِيم» (آل عمران 31). لا يستوي معنى التذلل شاء الناس أم أبوا مع القول: «لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (التين 4)، لا يوجد في التذلل حب، ولا توجد فيه كرامة، وكرامة المخلوق الورع من كرامة الخالق.
هذا التركيز الدائم لجماعة الكلام على إشعار الانسان بالذنب لذنب لم يرتكبه ظلم. هذا التخويف الدائم في الحياة والموت لا يُخرج مؤمناً سليماً، إنه يُخرج معقدين مشوهين في التفكير والرشد. العلاقة القائمة على الخوف علاقة الخائف بالمخيف، هي ليست علاقة الخالق بالمخلوق. إذا لم يكن الخالق يحب المخلوق فلماذا خلقه في الأصل؟ هل الانسان زنوة كونيّة في زاوية مظلمة، أم أبدع ما خُلق من جنس الحيوان؟ هل هو الأغبى أم الأذكي؟ هو هل من بنى الحضارة أم الثعابين والكلاب والضباع؟ هل هو من عمّر المساجد والكنائس ورفع صوته بالحمد لله أم الضفادع والصراصير؟
إذاً، هذه «فا». صول في التفسير لفظة مثل «حصب» يعرفها كل من أصابته الحصبة، أو من لعب بالحصى، أو وضعها في الكانون تحت الحطب لكي تخزن حرارة النار وترفع حموّتها. «لا» في تفسير المفسرين لفظة مثل «طوفان» تعرفها كل أم وبنتها اشتغلتا في المطبخ فطف المجلى بالماء، وطف الحليب المُسخن عن الطنجرة في لحظة سهو عنه، أو طفّت القهوة وهي تفور على عجل واندلقت بسرعة على فم الركوة.
و«التسبيح» في التفسير من نوع تي مع أنها لفظة يعرفها كل من جُبل على العربيّة وانمزج الاسلام بروحه وجسده فأرسل مع كل حبة من حبات مسبحته بعض أسماء الله الحسنى، أو استغفر ربه، أو رجا الرحمة لرسوله، أو تمنى العزة والنصر للاسلام والعرب. أما أن يقول قائل إن التسبيح هو السبّاحة في الذِكر فهو كمن يقول إن المُسبَّحة التي تُؤكل مثل التسبيح.
حتى «أَصْحَابِ الْيَمِينِ» جماعة التفسير اختلفت على معناها، حتى «شَانِئَكَ»، حتى «الأنفال»، حتى «أَحَسِبَ»، حتى «القمل» اختلفت على معناه فقال بعضهم «هو السوس الذي يخرج من الحنطة»، وقال غيرهم بل هو «صغار الجراد الذي لا أجنحة له»، وقال ثالث بل هي «بنات الجراد»، وقال رابع هي «البراغيث»، وخامس إنها «دواب سود صغار»، وسادس إنها «هي دابة تشبه القمل تأكلها الابل، فيما بلغني».
لا حول ولا قوة إلا بالله. إذا لم يعرف الناس ما هو القمل في نظر جماعة التفسير بالضبط، فكيف يعرفون ما هو القمل بالضبط إذا وصف أحدهم القمل بأنه «دابة تشبه القمل»، فيما بلغه؟
Last modified: 4 يناير، 2023